السائق اللص يشيد بالقائد المناضل حافظ

18 أكتوبر 2022
+ الخط -

لخص أبو صالح الحديثَ الذي دار بيننا في اتصاله السابق، فقال إن أبو سلوم تعلم الخطابة خلال عمله بصفة آذن (فراش) في شعبة الحزب. الرفاق البعثيون، ضيوف الشعبة، ما كانوا يهتمون لكون الآذن واقفاً على ساقيه وهو يحمل صينية المشروبات، فكان يضطر لانتظارهم حتى يفرغوا من أحاديثهم التافهة ويأخذوا شايَهم أو قهوتهم، ليعود إلى غرفته الصغيرة (البوفيه)، ويرتاح قليلاً من الوقوف وسماع الكلام الفارغ.

- نسيت أن أخبرك، يا أبو صالح، أن أبو سلوم استفاد، ذات يوم، من الخطابات التي حفظها أثناء العمل، ومن كثرة ما كان يسمعها من الإذاعة والتلفزيون.

- استفاد؟ وهل للخطابات فائدة؟

- طبعاً، لها. فحينما تكون مكتوبة في الصحف، يمكن أن تنظف بها ربة البيت زجاج النوافذ وخزانة الملابس (السكرتون)، وإذا كانت مدونة في كتب، أو مجلدات، وتستخدمها الخبازة في إحماء التنور، وصناعة ذلك الخبز الشهي الذي يضرب به المثل، فيقال: فلان وجهه لا يضحك حتى للرغيف التنوري الطازج.

- أنا أخالفك الرأي يا أبو مرداس، وأنصح بتجنب استخدام الخطابات في إحماء التنور، فلربما أفسدتْ طعمَ الخبز. على كل حال أنا أنتظر أن تحكي لي كيف استفاد أبو سلوم من الخطابات.

- يا سيدي، "أبو سلوم"، بعدما انتهى من الخدمة العسكرية، حصل على شهادة سواقة عمومية، من أجل أن يشتغل سائقاً ويعيل أسرته، ولكنه، بسبب النحس المزمن، لم يتمكن من العثور على صاحب سيارة يرضى بأن يشغّله لديه.. إلى أن جاء يوم، طرق فيه باب داره بقوة، فتح، فوجد نفسه في مواجهة دورية مخابرات مسلحة، ووجوه عناصرها تقطع الرزق، مع أن رزقه مقطوع بطبيعة الحال، فذعر، واستغرب أن يداهموا بيته، وهو لم يمارس من العمل السياسي غير تقديم الشاي والقهوة لضيوف أمين الشعبة التافهين العلاكين! ولكنه تنفس الصعداء عندما أعلمه رئيس الدورية بأنهم يريدونه لمقابلة المعلم رئيس الفرع، الذي يريد أن يوظفه سائقاً على سيارة نقل عامة (ميكروباص).. فذهب برفقتهم، وقابل ذلك الرجل، واسمه العميد نبيل، ووجده، كما أخبرني، رجلاً شديد الغرابة، فهو مُطَعَّم على بالوعة، يسرق التعويضات والمكافآت التي تُعطى للعناصر، ويفرض على كل عنصر من الذين يذهبون في دوريات مبلغاً شهرياً مقطوعاً، مما يتسلبطون به على أهل المدينة والريف، ويتابع أخبار المشاجرات والعداوات التي تقع بين الناس في المدينة والريف، ويعمل على تحميتها، وإيصالها إلى حافة التصادم، ثم يتدخل لحلها، ويقبض من الأطراف المتنازعة كلها..

تهدلت عضلات وجه العميد، واشرأبت أذناه من فرط الدهشة، وراح يكتب بسرعة، ويقول لأبو سلوم: أكمل أكمل..

- ربما كانت كلمة بالوعة غير كافية لوصفه.

- نعم، ولكنه كان، في نظر أبو سلوم، شخصية طريفة، وبحسب ما سمع عنه، أنه يجمع الأموال التي يسرقها، أو يأخذها على هيئة إتاوات، حتى تصبح كافية لشراء ميكروباص، فيشتريه، ويعين عليه سائقاً، ثم يبدأ بجمع ميكروباص آخر، وهكذا، فإن الميكروباص الذي عهد العميد نبيل لأبو سلوم بالعمل عليه، كان رقمه 17..

وهو، على الرغم من كل تلك الثروة التي يمتلكها، بخيل، وقد ظهر ذلك عندما سأل صديقَنا "أبو سلوم" عن الأجرة الشهرية التي يريدها، أجابه بأن السائد في المنطقة كلها، أن تكون أجرة السائق 5000 ليرة، مع وجبة طعام يومية، وعلبة سكائر أجنبية.. فصفر العميد نبيل من فرط الدهشة وقال إنه سيدفع له 2500 ليرة شهرياً، ويسمح له بشراء علبة سكائر محلية، مرة كل يومين، وهو ينصح بترك التدخين لأنه يضر بالصحة وبالجيب، وقبل أن يعطيه أبو سلوم أي جواب، أوضح له أن أي لعب بالذَيل من قبل السائق، أي أن يمد يده إلى الغلة، يعني أن يُرْسَل إلى القبو، ويوضع في الدولاب، ويضرب مثل جحش..

- هذا موقف يبكي ويضحك..

- المضحك أكثر أن أبو سلوم وافق على شروط العميد نبيل، وقرر، في تلك اللحظة، أن يسرق من الغلة.. المهم، دعنا من هذه التفاصيل، ولنذهب فوراً إلى موضوع الخطابات السخيفة التي أصبحت، في لحظة ما، مفيدة.. فبينما كانت الأمور ماشية، وأبو سلوم يسرق من الغلة، ويأخذ لذلك أقصى أنواع الاحتياطات، لئلا يأمر نبيل بإنزاله إلى القبو، ووضعه في الدولاب، حان وقت المحاسبة الأسبوعية على الغلة، فحضر إلى الفرع، لكي يقابل العميد، فوجد الزينات قد ملأت الساحات والغرف والممرات، وقد علقت صور متنوعة لحافظ الأسد، إحداها من اتحاد الفلاحين، وفيها يرتدي الكضاضة والبريم (العقال)، وتحتها كتبت عبارة نعم للفلاح الأول حافظ الأسد، وكان مكتب العميد مشغولاً بالداخلين والخارجين، وعشرات المنافقين الذين يأتون ليعلنوا ولاءهم، واستعدادهم لفعل أي شيء لكي ينجح الاستفتاء على حافظ بنسبة التسعات المعروفة.. وفي هذه الأثناء، وبالمصادفة، التقى أبو سلوم بصديقه السائق أبو فادي، وكان اثنان من العناصر يسحبانه، فهو لا يقدر على المشي من شدة الضرب في الدولاب، وعندما جلس بجواره، وسأله عن سبب تعرضه للضرب، قال: لعب بعقلي الشيطان، وسرقت من الغلة، والعميد نبيل كشفني!

وفي هذه اللحظة جاء مَن يخبره بأن العميد سيقابله في المساء، فخرج من الفرع يجر ساقيه جراً من شدة الخوف، فقد أيقن أنه اليوم سينزل إلى القبو لا محالة.. ولكنه، عندما حضر في المساء، أدخلوه غرفة العميد، فوجده يكتب كلمتين أو ثلاثاً، ويمزق الورقة، ويبدأ بكتابة غيرها، وفهم من بعض الكلمات التي يلفظها العميد أنه يكتب خطابة ليلقيها على عناصره بمناسبة الاستفتاء، فقال أبو سلوم: اكتب. أيها الرفاق، أيها المناضلون، يا أحفاد طارق بن زياد، وخالد بن الوليد، وأبي عبيدة الجراح، إننا نحتفل اليوم بمناسبة عزيزة على قلوبنا، مناسبة ترشيح القائد العربي الكبير حافظ الأسد لدورة رئاسية جديدة..

تهدلت عضلات وجه العميد، واشرأبت أذناه من فرط الدهشة، وراح يكتب بسرعة، ويقول لأبو سلوم: أكمل أكمل..

وما هي إلا نصف ساعة حتى أملى عليه ثلاث صفحات، كلها من هذا العلاك الفارغ، الذي لا يقدم ولا يؤخر.. وبعدها وقف العميد وقال لأبو سلوم: أقسم بشرفي العسكري أنني كنت اليوم سأضربك في الدولاب بنفسي، يا حرامي يا لص، ولم يشفع لك غير هذا الكلام الرائع الذي تقوله بحق السيد الرئيس!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...