الروبوتات الشُّعراء وأبو نوّاس وقصيدة النثر
"أنا آسف، إذا لم تعجبك القصيدة، لكنّي سعيد لسماع آرائك. هل هناك جزء معينٌ في القصيدة تود تحسينه أو تغييره؟ أم أنّ هناك نمطاً تفضله في الشّعر؟ أيّ توجيه تقدّمه سيساعدني في تقديم قصائد أفضل في المرة القادمة". كان ذلك ردّ تطبيق تشات جي بي تي، بعد حكمي على قصيدته بكونها كومة من هراءٍ سخيف.
قال أوكتافيو باث ذات مرّة، وهو يصف بواقعيةٍ ما كان عالمنا إلى حدٍّ قريب: "المحادثة أمرٌ إنساني". لكن بعد هذا الحوار الطريف مع الذكاء الاصطناعي أضحت تلك الجملة بكلِّ بداهتها، زعماً مبالغًا فيه، وفرضية زائفة. لم تعد تنتمي إلينا، إنّما ستظل هناك، مطبوعة بالضرب الميكانيكي على الآلة الكاتبة؛ ثابتة في الأمس، مخذولةً من أعاجيب الحاضر وجنون المستقبل.
وأنا أحاور التطبيق الذكي، لم يكن ثمّة من داعٍ لأجيبَ طلبه حتى يحسّن من قصيدته، ويكتب شِعراً حقيقيّاً، فالأمر كلّه بدا لي ضرباً من الخبل. ومع أنّي كنت أدردش في الحقيقة مع روبوت، فقد لمست فيه باستياء ما يشبه جرأة شخص، بلا موهبة، ولا شعور، يطلب إرشادات في الكتابة. ذكّرني طلبه هذا بالنصيحة التي أسداها الشاعر، أبو نواس، إلى شخصٍ أراد أن يصبح شاعراً، فقال له: احفظ ألف بيت، ثم انسها. لقد كان ذلك هو الشّعر بالنسبة إلى أبي نواس، ثروة لغوية لا غير. يذهب مطوّرو التطبيقات الذكيّة إلى الأخذ بهذا السّبب العقيم في جعلِ روبوتاتهم شعراء؛ أي بحشوها بآلاف من أبيات الشّعر ثمّ دفعها إلى أن تتكلّم.
إنّ مجرّد تخيّل روبوت يكتب عن الحب هي نكتة تبعث على الضحك
واسب (WASP)، هو اسم ربوت شاعر آخر ابتكره الدكتور في علوم الكومبيوتر بإحدى جامعات مدريد، بابلو جيرفاس. وقد اشتغل الرّجل على هذا البرنامج لمدة 17 عاماً، عمل فيها على تكديس البرنامج بأشعار كلاسيكية من العصر الذهبي الإسباني. استطاع الشاعر المُبتَكرُ بعد هذا الجُهد الكبير، أن يكتب قصائد ليست بشكلٍ سيّئ، ولا بشكل جيّد، في موضوعات مختلفة. مرّة عن الطبيعة، وأخرى عن الوحدة أو الحب...
إنّ مجرّد تخيّل روبوت يكتب عن الحبِّ نكتة تبعث على الضحك. يعترف بابلو: "لكتابة قصيدة حب يجب على النظام أن يعرف عن الحب، وهذا أمر معقد". لكن يبدو الأمر أكثر تعقيداً حسب رأيه حين يتعلّق الأمر بالشّعر الحر، أو ما نسميه نحن قصيدة النثر. فمن الصعب إنتاج هذا النوع من القصائد والحصول على نتائج مقبولة، لأنّ الجمال يكمن في قوّة شعورية، تأملية، أبعد من خوارزميات لغوية معلوماتية.
لكن، رغم ذلك النّقص والقصور الفنيّ الفادح، بدأت تصل أعمال الشّعراء الآليين إلى المكتبات بأسرع ممّا كنّا نعتقد. قد يبدو الأمر على سبيل التسلية، لكنه يحمل طابع الجد. فقد ذهبت دار النشر الصينية "Cheers Publishing" إلى هذا الحد، بجلبها إلى المكتبات مجموعة شعرية بعنوان: "لقد ضاع ضوء الشمس في زجاج النافذة"، حيث حفظت الخوارزمية التي أنشأها عملاق الكومبيوتر Microsoft Little Ice أكثر من 500 نص شعري لتتمكن من كتابة 10000 قصيدة، نُشر 193 منها فقط. وقد انتشر بعضها على شبكات التواصل الاجتماعي بأسماء مستعارة مختلفة.
ليس ببعيد إذاً، أن نتفاجأ يوماً بروبوت شاعر يُوقّع كتبه في معرض دولي إلى جانب شعراء من لحم ودم، فتحصل مجموعته الشِّعرية، دون غيرها، وبلا شك، على أعلى المبيعات. عندها، سيكون من دواعي سروري أن أقف في طابورٍ طويلٍ كي أحصل لأوّل مرّة، وكما لم يحدث في تاريخ البشرية من قبل، على توقيع شاعر بلا روح، ولا عاطفة، ولا قلب. أن ألمس من قرب الفضيحة الأخلاقية والفلسفية التي تجعلنا نتساءل ونحن نقلّب الصفحات العجيبة عمّا إن كان معنى التقدّم التكنولوجي هو إزاحة الذات والفرادة والرّوح ودفع الفنّ حدّ الانكسار والألم، إلى فوّهة العدم.