الحمار بنيامين ودفن الرأس في الرمال
يحكي الكاتب جورج أورويل بأسلوب بديع في رائعته "مزرعة الحيوان" عن قصة حيوانات مملوكة لصاحب مزرعة ما، قرّرت أن تثور على مالكها وتنال حقها المشروع من الحرية، بعد أن كلّت من عدم التقدير؛ إذ تقضي هذه الحيوانات معظم وقتها في عملٍ دؤوب، ولا تنال نظيره أجراً يرضيها.
وتحمل الرواية إسقاطاً على واقع تلك الثورات التي يتسم روّادها بتضليل الثوار واختطاف ثمرة ثورتهم.
يتناول أورويل في هذه الرواية مشاعر وسلوك وتعاطي كلّ فرد من هذه الحيونات مع الأحداث التي رافقت قصة كفاحها، من مرحلة ما قبل الثورة، فبداية التخطيط لها، وحتى ما بعد اختطافها وتبيان مرحلة سقوط الأقنعة. فمنهم من احتال على الحيوانات وغرّر بها، ومنهم مَن لعب دور الوسيط... أمّا من كانوا ضحية هذا الفعل، فانقسموا لعدّة فِرق أيضاً؛ فريق رضخ للأمر ولم يبد رفضاً، وفريق استنكر ما يحدث فور رؤيته للحقيقة وفريق آخر انطلت عليه الخدعة تماماً وتمّ التغرير به.
ومن أكثر هذه الحيوانات غرابة في التعاطي مع الأحداث الصادمة للثورة هو الحمار بنيامين الذي اختار أن لا يُحرّك ساكناً تجاه ما يسمع ويرى؛ فقد اعتاد بنيامين أن لا يعير الأمر أدنى اهتمام، مع أنه كان يرى كلّ شيء واضحاً وضوح الشمس، إما لكونه يرى ولا يفهم، أو لأنه اختار عدم الخوض في أشياء كهذه بمحض إرادته، والاحتمال الثاني أكثر ترجيحاً؛ نظراً لكثرة هذه الظاهرة وقت حدوث الصدمات، خاصةً في ما يتعلّق بالثورات والحروب، ونظراً لكون بنيامين نبيهاً، فطناً، عُرِف بالحكمة ولم يكن غبياً، فقد سُئل ذات يومٍ: "لماذا لا تضحك يا بنيامين؟". فردّ بقوله: "أرى ما يستحق البكاء".
حالة الإنكار قد تصل في بعض الأحيان لأن تكون بصورة جمعية وتشمل مجتمعاً كاملاً وليس فرداً بعينه
وعليه، فإنّ لسلوك بنيامين، بتفضيله غضّ الطرف وعدم الاكتراث بدلاً عن الخوض في ما قد يرهق تفكيره ويتعب قواه العقلية تفسير علمي لحالة سايكولوجية يلجأ إليها البعض لتعتيم الجانب الذي لا يحبونه، وذلك بذرّ الرماد في العيون ودفن الرأس في الرمال. وتسمّى هذه الحالة عند علماء النفس بصدمة الإنكار، وهي إحدى آليات دفاع الأنا التي تحدّث عنها العالم النفسي سيغموند فرويد، ومن ثم طوّرتها ابنته آنا، في ما بعد، وهي آليات يتبِّعها لاوعي الإنسان لمجابهة الأفكار المقلقة والحقائق الصادمة.
بدأ المحلل النفسي فرويد بملاحظة مفهوم الإنكار عام 1896، وأخذ في تتبعه حتى 1898، وكتب عن ذلك في كتاباته، ووصفه وقتها بأنه حالة رفض الاعتراف بالحقائق المزعجة حول الأحداث الخارجية والداخلية، بما في ذلك المشاعر والذكريات والأفكار. وتمّ البحث في نظرية الإنكار لأوّل مرة بصورة جدية من قبل آنا فرويد عام 1936، ثم توسع نطاق نظرية الإنكار بشكل كبير مع تقدّم الأبحاث الحديثة، ليشمل مفاهيم أكثر تعقيداً ويشمل أنواعاً أخرى، بعضها يصل لحالة الإنكار المَرَضي.
أسوأ ما في الإنكار هو تبنّيه للوهم، إذ يعطي تصوّرات خيالية ويُرسِخ مفاهيم خاطئة تُسمّم أفكار المرء وتُفقِده النظرة السوية والمتزنة للأشياء
وتقتضي صدمة الإنكار أنّ عقل الإنسان يختار، بمحض إرادته، عدم الاكتراث أو تصديق أوهام مرضِية وقت حدوث فاجعة ما، بدل أن يشغل باله بالمصيبة التي ألمت به والتفكير في حلول منطقية لها، الأمر الذي يُشْعِره وكأنّ هذه المصيبة لم تكن، فيظلّ الفرد يركن لوهمه ويستطيبه... ولأنّ "الوهم ضلال لا ينتهي إلا بحقيقة تصفع"، فإنّ هذا الفعل له عواقبه بطبيعة الحال، فقد تتفاقم هذه المشكلة لتنتج عنها كوارث كان بالإمكان تفاديها منذ البداية، لو أنها وجدت حلولاً جذرية، أو حتى حلولاً مؤقتة، بدل ركنها هكذا وكأنها لم تكن من الأساس.
وهذا بالضبط ما كان يداوم عليه الحمار بنيامين، فكان يرى أنّ التغاضي عن هذه البلايا أسهل وأرفق بالنفس من التفكير فيها، لذلك كان يدع الأشياء على ما هي عليه.
حالة الإنكار قد تصل في بعض الأحيان لأن تكون بصورة جمعية وتشمل مجتمعاً كاملاً وليس فرداً بعينه، وأحياناً تظهر بصورة تكاد تكون غالبة على المجتمع ويمكن ملاحظتها بسهولة، حين يمتطي العامة الوهم ويسبحون في أفلاك لم تكن لتستوعب وهمهم يوماً.
وأسوأ ما في الإنكار هو تبنّيه للوهم، وما قادك شيء مثل الوهم، إذ يعطي تصوّرات خيالية ويُرسِخ مفاهيم خاطئة تُسمّم أفكار المرء وتُفقِده النظرة السوية والمتزنة للأشياء. وقد يسقط الفرد في دوامات الإنكار عدّة مرات، فيصبح أسيراً لتلك الأوهام، وإن كان الأجدر به الترجُل عند أول محطة سانحة لذلك، لأنه كلّما طالت الرحلة، زادت عواقبها.