الإعلام أيضاً... يقاوم في جنين
دموع مراسل تنهمر مباشرةً على الهواء. رسالةُ آخر لا تتوقف رغم تعرّض كاميرته وجهاز البث لوابل من الرصاص الحي... زملاء تمّت محاصرتهم داخل المنازل وآخرون أصيبوا. ولساعات متواصلة، والتغطية الإعلامية للعدوان الإسرائيلي الأكبر على جنين منذ الانتفاضة الثانية، لم تتوقف، ولم ترعبها النيران الإسرائيلية.
لا يمكن فصل السلوك العدواني الإسرائيلي تجاه وسائل الإعلام عن السياسات الإسرائيلية العامة في التعامل مع القضية الفلسطينية، لناحية إلغاء الوجود الفلسطيني، وروايته، وحقوقه التاريخية، إذ لا تتوانى قوات الاحتلال، ولا للحظة واحدة، عن التعرّض لأيّ صحفي ووسيلة إعلامية تحاول كشف انتهاكاتها وخروقاتها، وصولاً إلى الاعتداء أو الاعتقال، وحتى الاغتيال، بهدف تعطيل دورهم في نقل الحقيقة.
اعتبر الاحتلال الإسرائيلي أنّ أيّ محاولة للكشف عن انتهاكاته تمثِّل ضربًا لمنظومته العسكرية والأمنية والسياسية، وتعرية لجرائمه ضد الشعب الفلسطيني، وفضحاً لصورته أمام المجتمع الدولي، إذ يُقدّم نفسه كدولة ديمقراطية هدفها إقامة السلام، ولم يكن هناك من يقوم بهذه المهمة سوى وسائل الإعلام التي لم تكن في السنوات والعقود الأولى من نشوب الصراع على هذا المستوى المتقدّم كما هو اليوم، وبالتالي يتعامل المُحتل الإسرائيلي مع الصحافي كما يتعامل مع المقاومين.
كلّ هذه المحاولات لم تنجح في إخفاء العدوان الذي تعرّض له مخيم جنين مع كلّ ما رافقه من مشاهد، خاصة مشهد تهجير ساكني المخيم من منازلهم، هذا المشهد الذي أعاد إلى أذهاننا مشاهد التهجير المستمرة منذ بدايات النكبة الفلسطينية.
كما أخفق هذا الكيان في إسكات بندقية المقاومة، فشل أيضاً في كمّ الأفواه الصحفية
وكان لشبكة "التلفزيون العربي" نصيب من هذه الاعتداءات، إذ اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية بخبر استهداف فريق عملها (المراسل والمصوّر) بشكل مُباشر ومُتعمّد من قبل الآلة العسكرية الإسرائيلية التي قامت بإطلاق رصاص حي على الكاميرا وجهاز البث، ولم تتوقف إلا بانفجار الأخير واحتراق الكاميرا.
زخّات الرصاص التي انهالت على طاقم قناة "العربي" تُذكرنا بالشهيدة شيرين أبو عاقلة، التي سقطت مُضرّجة بالدماء بعد اغتيالها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي في نفس البقعة الجغرافية. يُضاف إلى هذين الحدثين، قائمة طويلة من الانتهاكات بحق الصحافيين منذ اغتصاب الكيان الإسرائيلي لدولة فلسطين.
يسعى الاحتلال الإسرائيلي من خلال هذه السياسة إلى ترهيب الصحافيين العاملين في الميدان الفلسطيني لإبعادهم عن هذه الساحة، ولكن كما أخفق في إسكات بندقية المقاومة، فشل أيضاً في كمّ الأفواه الصحفية، محوّلاً الصحافيين إلى مناضلين في هذه الساحة، بل وخلق حافزاً لديهم للاستمرار في عملهم وإحياء روح النضال والمقاومة بالكلمة.
هذا ما تجلّى بعد الاعتداء الأخير على طاقم "التلفزيون العربي"، إذ لم تهدأ التفاعلات وردود الفعل المتعلّقة بالحادثة من جهة، ودفعت الزملاء والمراسلين والمصوّرين في الساحة الفلسطينية للحضور أكثر في مناطق الاشتباك وساحات القتال لنقل مشاهد الإجرام الإسرائيلي لكلّ العالم من جهة أخرى. تغطيات متواصلة على مدار الساعة، وفي الأماكن المُشتعلة، دون أن ترهبهم رصاصات قوات الاحتلال.
الصحفي مقاوم بصوته والمصوّر مقاوم بالمشهدية الواقعية التي ينقلها للعالم
وفي جانب آخر، بات واضحاً الوعي لدى المتفاعلين على وسائل التواصل الاجتماعي من كافة دول العالم عموماً، والعالم العربي خصوصاً، حيث شكّل التضامن الرقمي والنشر المتواصل للمواد التفاعلية على كافة المنصات دافعاً للأطقم الإعلامية في الاستمرار والتقدّم ونقل الحقيقة للجمهور.
ولكن نقف خائبين أمام مجتمع دولي ومنظمات ومؤسسات دولية معنية بحماية العمل الصحفي، حين لا يُحرّكون ساكناً لمحاسبة إسرائيل في انتهاكها لكلّ المواثيق والاتفاقيات الدولية في هذا الإطار.
وفي هذا السياق، لا يمكن الصمت عن هذه الجرائم، ولا يمكن الخضوع لإرهاب الرصاص والقتل، فالعمل الصحفي هو نضال أيضاً، لكشف حقيقة العدوان وفضح انتهاكات الاحتلال، والصحفي مقاوم بصوته، والمصوّر مقاوم بالمشهدية الواقعية التي ينقلها للعالم.