الأعمال والنيّات في مجتمع الاعتراف والاحتقار
"إنّما الأعمال بالنيّات". يمكن تطبيق ذلك القول بنجاحٍ غالبًا، في المجال الديني والأخلاقي، حيث تكون النيّات المعيار الأساسي لتقييم الأفعال، لكن النيّات غير كافيةٍ، في كثيرٍ من السياقات الأخرى، بل إنّ "الطريق إلى جهنم مفروش بحسن النيّات"، كما يقول مثلٌ إنكليزيٌّ. ففي الحياة العملية، تحظى النتائج بقيمةٍ لا تقلّ عن قيمة النيّات، بل قد تفوقها كثيرًا في أحيانٍ ليست قليلةً.
ولعل الميدان السياسي، هو الميدان البراغماتي والعملي بامتيازٍ، فالمعيار الأول والأهم في تقييم أيّ سياسيٍّ، هو مدى نجاحه في تحقيق النتائج المرغوبة، وليس مدى امتلاكه لنيات حسنة. ولهذا يسارع سياسيون كثر في البلدان ذات الأنظمة الديمقراطية إلى الاستقالة عند فشلهم في تحقيق ما كان ينبغي لهم تحقيقه، أما في "بلداننا، ذات الأنظمة الاستبدادية"، فيلجأ السياسيون إلى الخطاب الشعبوي والتذكير بنياتهم الطيبة وأخلاقهم الحسنة، وما شابه.
وتبدو أهمية النتائج واضحةً في معظم مجالات الحياة العملية، كمجال الدراسة، على سبيل المثال. وأذكر أنّه حين عبّرت أختي نيفين عن حزنها من نتائجها "غير الجيدة جدًّا" في امتحانات الشهادة الإعدادية، بادرتها بالقول: "ينبغي أن تكوني راضيةً عن نفسك، بغضّ النظر عن النتائج، فالمهم أنك بذلت ما بوسعك، وفقًا لظروفك وممكناتك". كنت أعني كلّ ما قلته لها، لكنّني انتبهت لاحقًا إلى أنّ النتائج لا ترحم، وأنّ النتائج السيئة قد يكون لها نتائج "عملية" بالغة السوء، والعكس صحيحٌ بالنسبة إلى النتائج الجيدة.
في الفلسفة والعلوم الاجتماعية المعاصرة، أصبح هناك حديثٌ متزايدٌ عن ضرورة أن يحظى الإنسان بالاعتراف، بالاستناد إلى عددٍ من الفلاسفة، أبرزهم الفيلسوف الألماني، فريدريك هيغل. كما رأى الفيلسوف الألماني، أكسِل هونيت، أنّ ذلك الاعتراف يتجسّد في ثلاثة مجالاتٍ وصيغٍ أساسيةٍ: الحبّ والاحترام والتقدير. ففي مجال العلاقات الأسرية والاجتماعية الحميمة، يتجسّد الاعتراف في صيغة الحب، وفي مجال العلاقات السياسية والقانونية يتجسد الاعتراف في صيغة الاحترام والمساواة القانونية والأخلاقية بينهم، وفي مجال التضامن والعلاقات الاقتصادية والإنتاجية، يتجسّد الاعتراف في صيغة التقدير، المادي و/ أو المعنوي.
الإفراط في التشديد على المساواة بين البشر ونيلهم اعترافًا متساويًا، فيه الكثير من الظلم وعدم الإنصاف، لأنّ المساواة بين غير المتساوين قد تعني الظلم، في بعض السياقات
من الواضح أنّه لا مفاضلة (كبيرة أو مهمة) بين الناس في خصوص الحبّ والاحترام، من حيث إنّ كلّ الناس يستحقون ذلك الاعتراف، من حيث المبدأ. لكن التفاوت يظهر، خصوصًا، في ميدان التضامن والاقتصاد والإنتاجية المتفاوتة، كيفًا وكمًّا، حيث يتناسب أو ينبغي أن يتناسب التقدير الذي يحظى به الإنسان مع مدى نجاحه وإنتاجيته. فالمجتمع، يقدِّر أو ينبغي أن يقدِّر الناجحين، فيما لا يحظى الفاشلون، في هذا السياق، بكثيرٍ من التقدير، أو بأيّ تقديرٍ. ويمكن للفشل أو الإخفاق أو عدم النجاح (الكبير) في المجال الاقتصادي أن ينعكس سلبًا على المجالين الأسري/ الاجتماعي والقانوني/ السياسي، وأن يفضي إلى التعرّض للاحتقار، المباشر أو غير المباشر، ليس من المجتمع وأفراده والدولة ومؤسساتها فحسب، بل من الذات نفسها أيضًا. ولا يهمّ هنا، (كثيرًا)، نيّات الشخص ومدى بذله لكلّ جهدٍ ممكنٍ، فالتركيز يكون على الإنتاجية والنتائج بالدرجة الأولى، وربما الأخيرة أيضًا.
انطلاقًا من ذلك، يمكننا أن نفهم لماذا يزعم الكثير من الآباء والأمهات أنّ أولادهم حصلوا على المرتبة الأولى في صفهم وامتحاناتهم. وهذه المزاعم، قد تكون صادقة أحيانًا. والغرض الأساسي من إعلانها والتفاخر بها، السعي لنيل الاعتراف. لهذا السبب، رأى كثيرون ضرورة ألا يتحوّل مجتمع الاعتراف إلى مجتمعٍ للاحتقار، وأن يؤخذ في الحسبان تفاوت إمكانات الأشخاص وظروفهم وأوضاعهم، وضرورة حصول الجميع على الحدّ الأدنى من الاعتراف والتقدير، على الأقل، شرط أن يبذلوا الحدّ الأدنى الممكن من الجهد في سبيل الحصول على ذلك.
الهوس بالإنجاز والنجاح ونيل الاعتراف قد يجعل من الذات ملتهبة أو مشتعلةً، لدرجةٍ مَرَضيةٍ غير مُرْضيةٍ لا للذات، ولا للآخرين في نهاية المطاف
مع أخذ ما سبق في الحسبان، يمكن القول إنّ الإفراط في التشديد على المساواة بين البشر ونيلهم اعترافًا متساويًا، فيه الكثير من الظلم وعدم الإنصاف، لأنّ المساواة بين غير المتساوين قد تعني الظلم، في بعض السياقات. في المقابل، الإفراط في التشديد على التفاوت بين البشر، يفضي إلى قيام تراتبيةٍ يقف في قمتها عددٌ صغيرٌ منهم، فيما تقبع الأغلبية الساحقة والمسحوقة منهم في الدرك الأسفل من نار تلك التراتبية. ولهذا كان التحدّي الأكبر، في الفلسفات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، هو التوفيق أو إقامة جدلٍ إيجابيٍّ، بين المساواة والتفاوت بين البشر، بين حرياتهم الفردية والعدالة الاجتماعية، بين الفردية أو الليبرالية والجماعاتية، ومن منظور اللغة التي كانت سائدةً في القرن العشرين، بين اليسارية واليمينية.
يمكن للسعي لنيل الاعتراف أن يجعلنا ندخل في نفقٍ ليس له مخرج، وهوّةٍ ليس لها قرار، فيتعادل حينها نيل الاعتراف مع نيل الاحتقار، من حيث إنّ كليهما يفضي إلى استنفاد الذات أو اغترابها عن ذاتها واختزالها في ما يراه المجتمع وأفراده، والدولة ومؤسساتها، نجاحات وإنجازاتٍ. فالهوس بالإنجاز والنجاح ونيل الاعتراف قد يجعل من الذات ملتهبة أو مشتعلةً، لدرجةٍ مَرَضيةٍ غير مُرْضيةٍ لا للذات، ولا للآخرين في نهاية المطاف. وفي مثل هذه الحالة، لا تفكر الذات إلا بذاتها عندما تكون مع الآخرين، ولا تفكر إلا بالآخرين ونظرتهم إليها، عندما تكون مع ذاتها. وهذا ما بيَّنه أو جسَّده الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، نظريًّا في فلسفته، وعمليًّا في حياته.