أنظمة ومجتمعات مريضة في عصر الثورات الرقمية
نورالدين خبابه
لم تعد الثورات في عالم اليوم تحدث كما كانت في السابق، بسبب احتلال الأوطان بالجنود والعتاد والسلاح لاستغلال الثروات... بل أصبحت ثورات من نوع آخر، والاحتلال أضحى عبر احتلال العقول عن طريق الذكاء الاصطناعي.
وقد أبانت مواقع التفاعل والتواصل معادن الأنظمة، ومدى جاهزيتها، في التعرّف على ما تفكّر به الشعوب والمجتمعات وكمية وكيفية استخدامها للإنترنت، ومدى قدرات الأخيرة على الدفاع عن هويتها وأمنها واقتصادها، إذ أصبح بإمكان المختصّين في علم النفس والإدراك والتحليل، كما أصبح بإمكان الأجهزة الأمنية المتطوّرة، ومؤسسات مختلفة، ومكاتب دراسات... تفسير ما يقوم به المواطن في ظلّ هذه الأنظمة الشمولية العاجزة عن التطوّر. وذلك عن طريق تتبّع الخوارزميات، ومن خلال المواضيع التي يناقشها المواطن، وتلك التي ينقلها ويثيرها، والسلع التي يبحث عنها، والصور التي يرفعها ويضعها في مكان التعريف بشخصيته، ومقاطع الفيديو التي يتفاعل معها، والمجموعات والصفحات التي ينشئها، والمواقع التي يزورها والملفات التي يحملها، وما هي اهتماماته وميولاته وانشغالاته وأولوياته، ومستوى تفكيره ودرجة استيعابه وقدرة تحمّله، ومعرفة قدرة ذكائه وسذاجته، وتصديقه وتكذيبه للمنشورات، ومعرفة مستوى احتياطه وتكتمه، وقدرته على حماية جهازه وبياناته واستعماله لهذه المواقع، الأوقات التي يقضيها بها، بل وطموحاته أيضاً.
وإليكم بعض النماذج الناشطة مع عدم الغوص في التفاصيل:
ثمّة شخص يزرع الحب، في كلّ كتاباته ومواقفه، ينحت العبارات نحتاً، يدقّق أحرفها ويطرّز معانيها، وكأنّه يوزّع روائح الورود والعطور والكنوز، فيختار أوقات الزرع وينتظر بلهفة متى يثمر. وفي المقابل، ثمّة مختصّ بزرع الأحقاد والكراهية، وحبّ الثأر والانتقام، ينشر الضغائن وتصفية الحسابات بين الناس من خلال كشف الأسرار والابتزاز وكسر أقفال الخصوصيات، وتغذية الصراعات والمشاجرات والمشاحنات والملاسنات والفتن، والتنمّر والعنف، والميوعة والانحلال، وذلك بهدف قتل الحياء والحشمة والاحترام وإفساد الذوق والأخلاق، حتى يعمّم شذوذه الفكري في أوساط المجتمعات.
أصبح بإمكان الأجهزة الأمنية المتطوّرة، ومؤسسات مختلفة، ومكاتب دراسات... تفسير ما يقوم به المواطن في ظلّ هذه الأنظمة الشمولية العاجزة عن التطوّر
وآخر اختصّ بنقل الأحزان والكوارث، فلا تراه إلا وهو يسارع في نشر أخبار الموت والحوادث، غير مبالٍ بما يترتب عن نشره للإحباط مع الاستمرار في هذا النهج. وأحياناً، يفعل ذلك، دون تثبّت ولا استئذان من العائلات الموجوعة. وقد وصل الأمر ببعض العائلات المقيمة بالمهجر إلى قراءة أخبار موت أقاربهم عبر مواقع التواصل، فكانت الصدمة صدمتين، صدمة انتشار خبر الموت على الإنترنت وصدمة عدم الحضور للجنازة.
هناك أيضاً، من يشبه آلة النسخ، ويا ليته يذكر ويحفظ الألقاب لأصحابها، بل يحذف أسماء المؤلفين حتى يخيّل للناس أنه صاحب الأفكار! يتقمّص شخصية المفكرين، والمبدعين، والفلاسفة، والشعراء، والأدباء والسياسيين، والأساتذة، والدعاة وهو لا يستطيع كتابة جملة مفيدة، فيوهم السذج أنّه عبقري زمانه.
هناك أيضاً، من هو مختصّ بالحروب النفسية من خلال التشكيك، وزرع الوهن، والتجسّس، والاختراق، والاحتيال، والتلاعب بالرأي العام، فقد جعل من هذه المواقع مصيدة لضحاياه من محدودي التفكير والوعي.
هناك من يشبه آلة النسخ، ويا ليته يذكر ويحفظ الألقاب لأصحابها، بل يحذف أسماء المؤلفين حتى يخيّل للناس أنه صاحب الأفكار!
هناك أيضاً من جعل من المواقع الإلكترونية والفضاء الرقمي درعاً لحماية أمنه واقتصاده وهوية شعبه، فاستغلها للنماء وساعدته في اختصار الأوقات وربحها، وتقريب المسافات وحلّ المشكلات والتعريف بالسياحة والآثار وتسهيل الإدارة والاستفادة من التقنيات.
وهناك من جعل المواقع مادة للتجارة وجني الأرباح والنهوض بالاقتصاد، وهناك من يستغلها لنشر الوعي، وهناك على النقيض من استغلها لنشر الرداءة والتفاهة والمجون.
الغريب في الأمر أنّ ثمّة مؤسسات إعلامية، لاسيما تلك التي تنتمي للقطاع العام، والمموّلة من الدولة وبأموال الشعب، تربط موقعها (إذا وجد طبعا، وإذا تمّ تحديثه أيضا)، بتطبيق ينشر بشكل آلي الأخبار وبلغة خشبية باهتة، وذلك دون مراعاة لتأثير ما يقوم به، وعلى حساب من. وذلك عوضاً عن القيام بمراجعات لخدمة المجتمع وتحديث الطواقم من خلال توظيف مختصّين بالمونتاج والإخراج وكتّاب السيناريو، ومن خلال تعيين وتوظيف شباب يفقهون هذه التحوّلات، وقادرين على المنافسة، خاصة الاستفادة من إطارات تكوّنت في الخارج متشبّعة بتاريخها وثقافتها، ومحبّة لوطنها، وتواكب عصر الثورات الرقمية وتطوّراتها لحماية الوطن. وذلك في وقت أصبح المواطن ينقل الأخبار وقت حدوثها، وبإمكانياته الخاصة، صوتاً وصورة، دون معرفة ما سيترتب عن نقل ذلك، وحيث نشهد تبذير أموال طائلة في ما لا ينفع في أوقات الأزمات الاقتصادية، نتيجة الحروب والزلازل والأعاصير.
أخيرا، يمكن القول إنّه في ظلّ هذه الثورات الرقمية، إذا لم تجد من يقاومهما ويواكبها، فإنّها ستأتي على مجتمعات بأسرها، لاسيما، وأنّ درجة الثقافة والقراءة والمعرفة بتكنولوجيا الإعلام الرقمي، وما تقوم به محرّكات البحث العالمية، في الحضيض. فهل من علاج؟