أنا أيضاً أريد العيديّة!
من بعد أذان الفجر، بينما ندفع النوم عن أعيننا دفعًا، ونبتهج بالتكبيرات التي وصلت للتوّ، وبينما نرتدي الأحذية أخيرًا من المسجد الذي بناه جد جدّي رحمه الله على رأس شارعنا، وفي داخل كلٍّ منا أنا وإخوتي طفل يرقص، وتكبّر ألسنتنا المخدرة التي تحاول الإفاقة من غيبوبتها في يوم مبارك كهذا، أرقب محفظة أبي، أحاول تبيّن ما بداخلها، أغوص بعينيّ في جلدها الطبيعي الأنيق، لأستخرج منها خبرًا مفيدًا عن المراسم التي ستجري بعد ساعتين من الآن.
نذهب إلى الصلاة، متأبطين سجاداتنا، مردّدين جماعيًّا في الطريق "الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، وتنفرج أساريرنا عنوةً رغم محاولاتنا في رسم "الكاريزما" على ملامحنا، واحترام "البرستيج" الذي يضفيه علينا اليوم الكريم، فنضحك ضحكات بلهاء، ما إن تنطلق حتى تستمر إلى وقت الصلاة.
ونعود من طريق أخرى غير التي سلكناها في الذهاب، ومعنا "بابا" و"ماما"، و"العم" وبناته، في مسيرةٍ تضع في عين الحسود حصوة، لكبر العدد وكثرة الولد، ونجلس إلى الإفطار، وغيرها من الروتين المفضّل لدينا، لتنتهي الفقرات الاعتيادية وتبدأ الفقرة المنتظرة، التي يتلخص فيها يوم العيد الحقيقيّ، بعد التكبيرات المحببة، وبعد إذن بقية الطقوس، فنتحلّق حول آبائنا، فتأخذ جدتي عيديتها، ونساء البيت أولًا، ثم نحن، كأننا في حفل لا يعادله إثارةً حفل توزيع أوسكار ولا إعلان جوائز نوبل.
نتحفّز، وعيوننا تخترق أو تخرق العيديّة التي يأخذها أولنا، ولو كان للأطفال حسد لكانت ستحترق تلك النقود لحظة منحها، لكن لله الحمد والمنّة، ليأتي نصيب كلّ منّا، ويأخذ عيديّته من 2 "بابا"، أبي وعمي، فتكون مضاعفة، وننطلق كالقطارات إلى الخارج، "لفرتكة" النقود الجديدة، أما أنا وأختي هاجر (ابنة عمي)، فكنا أذكى من ذلك كله، حين ندّخر العيديّة، وجهد تضييعها، بعدم الخروج من البيت، لأنّ فرصًا أخرى ستفوت الجميع عدانا، لأننا سننتظر الوافدين إلى البيت، المهنّئين، والمعايدين، من الأقارب والأحباب، حتى يغدقوا علينا عيديّاتهم، ومنهم من في مرحلة الخطبة لإحدى فتيات البيت، فيستعرض عضلاته بالورقة التي سيمنحها لكلّ منا، ثم عيديّات أخوالي، وأخوالها، وعيديّات القادمين من سفر، والراغبين في القرب، وكلّ العطايا، لنتخيّل نفسَينا ملكين على العرش، تنصبّ علينا العطايا صبًّا، فلا نمانع.
ننتظر العيدية كأننا في حفل لا يعادله إثارةً حفل توزيع أوسكار ولا إعلان جوائز نوبل
لكن منذ ثماني سنوات تقريبًا، حين حلّ الغراب على رؤوسنا جميعًا، وابتلانا الله بالبعد والغربة القسرية، وقلوبنا متّقدة لفراق أهلنا ومن نحبهم، ومن غيابنا عن العيد في أجمل بلد "تعيّد" في الدنيا، فلم أحصل على العيدية، ونبت شاربي ولحيتي وتضخم صوتي، ودرست وتخرجت وتزوّجت بفضل من الله ورحمة، وكبرت وصرت أحسب في طريقي، وأنا عائدٌ من المسجد قبل العيد بيومين، من سأعطيهم العيدية، ومن أين سآتي بالنقود الجديدة المطبوعة حديثًا، ومتى سأذهب إلى البنك لأطلبها بأرقام معيّنة من المصرفيّ، وقد صرت فجأةً الكبير الذي يعطي العيديّة لزوجة حبيبة وأهل كرام، وأم جميلة، وأهل بعيدين يتحرق قلبي شوقًا لهم، ولأطفال صغار، لا فرق بيني وبينهم في العمر ولا الحلم ولا اللهفة، انتظارًا للعيديّة من أبي الذي أعظم أمنياتي لقاءه، جالسًا تحت قدميه، متحفزًا، يأكلني الفضول، وأنا أقول: "أنا أيضًا أريد العيدية"! تلك اللحظة المقدّسة، بمشاعرها المزدحمة، ودفئها الحنون، وخلودها في الذاكرة!
ولا لومَ عليّ، فعسى أبي نفسه الآن، على بُعد مدنٍ وحدودٍ ومطارات وبحار، ساهمًا مثلي، يتحرّق باشتياق، إلى أبيه أيضًا، رحمه الله، الذي توفي قبل نحو ثلاثين عامًا -في ليلة عيد- جالسًا أمامه، وما زال يقول من وقتها، حتى الآن: "أنا أيضًا أريد العيديّة!".