غزة ومصر.. ما زال في الحلم بقية!

05 نوفمبر 2024
+ الخط -

متمترسًا في جبهته، مرابطًا في ثغره، منحازًا إلى فئته، يتربّص المجاهد بالعدو، ويرصد آليته التي عليها العين، وفيها الهدف، وفي تلك اللحظات وشدائد الأوقات تتجلّى سحائب الرحمات، ونسمات الإيمان، ولا يجد الإنسان من ذكر الله بُدًا، ولا يعرف عند سواه ملجأً ومرفأً، فيدعو بأثمن ما يخطر له، وبأحوج ما يحتاج إليه، وبأكثر ما يشعره بالسلوى، وبأصدق ما وقر في صدره، ولاعت به نفسه، وتلهفت له جنباته، والقوم في الخارج، خارج غزّة، في خزي وعار، لا يجرؤون على رفع رؤوسهم، بينما سفن قتل إخوتهم تشق أوساط بلدانهم عابرةً من جبهة إلى جبهة، كأن "قناة السويس" معبر من "إسرائيل" وإليها، فما كان من ذلك المقاوم سوى أن دعا: "اللهم أيدنا بالمؤمنين من مصر... ولا تحرمهم أجر الجهاد في سبيلك"!

والسامعون كأنّ على رؤوسهم الطير، مشدوهون من عمق الإيثار، ومن مدى سماحة الأنفس والأسرار، ذلك الرجل الذي يشعر بالحنق على العالم، ولا بدّ أن يشعر بأضعافه على جارةٍ لم تجره، ولم تكتفِ بذلك، وإنما أسلمته إلى أعدائه؛ الاحتلال، والجوع، والوحشة، فكيف يكون متعقلًا في غضبه إلى هذا الحد؟ متَّئدًا في عداوته إلى تلك الدرجة من التمييز بين الخاذلين والعاجزين؟ كيف له أن يبصر النور من خلف تلك الظلمات كلها؟ كيف يستبين الفارق بين الأنظمة الفاسدة والشعوب الواعدة؟ 

كانت تلك الحرقة في صوته، والحشرجة في صدره، وبينهما الغصّة في حلقه، كفيلةً بأن توصل المعنى كما هو، والمشهد دون تعديل، والشعور دون تضييع للتفاصيل، هو ذلك الامتداد الذي لا تنساه غزّة مهما وضعوا له حدودًا وفوقه أسيجة وأسوارًا، هو ذلك الحبل السري الممتدّ من القطاع إلى تلك الأم التي لا تتخلّى عن غزّتها أبدًا، بعيدًا عن التذويق والشاعرية والواقع المخزي، علم فلسطين الذي في قلب كلّ بيت، وفي قلب كلّ قلب، وحبها الساري في الدماء، والحزن عليها الذي يقطع الشرايين، والفداء لأجلها بشهادتي التاريخ والجغرافيا، وما محمد صلاح منا ببعيد، ولا قبله مواكب الشهداء الذين عبروا إلى غزّة ذات نهار، أو عبرت غزّة إليهم فآووها ونصروها، وما زالوا يحاولون، رغم التآمر والسجون.

كم من نداء لغزّة كان بلهجة مصرية خالصة، حتى تظنه صُوّر في إمبابة لا خانيونس، وفي شوارع السيدة زينب لا بيت لاهيا

وتلك الحرقة في صدور المصريين، الذين يموتون ولا يطيقون رؤية الدخان المتصاعد القادم إليهم من غزّة، ويسمعون الصراخ الذي بلا صدى ولا جدوى، وتغزوهم قرقرة البطون من الشمال والجنوب بسبب خيانة العقول والنفوس والذمم، ويشعرون بهم ويجمعهم ليل واحد، ونهار واحد، وساعة واحدة، ولا تجمعهم برغم ذلك ساحة واحدة، ما أقساه من شعور على الكرام من أهل النيل، الذين يسترخصون أرواحهم ورقابهم ورؤوسهم فداءً لأهل غزّة، وكم من نداء لغزّة كان بلهجة مصرية خالصة، حتى تظنه صُوّر في إمبابة لا خانيونس، وفي شوارع السيدة زينب لا بيت لاهيا.

كثير ما يجمع بلاد الرفحَين، وأكثر من أن يُحصى ما في داخل قلوب الشعب الواحد، الشعبين، لكن غريبًا جاء فدق الجدران والأسوار والأسلاك الشائكة بين أهل الوجدان الواحد، خدمةً لمن يشغلونه في سراديب سياساتهم القذرة، لكن الأيام دول، وذاك العجز زائل، بإزالة ذلك العرش.. لا محالة.