ماذا لو سقط 7 أكتوبر من التقويم؟
بعد عامٍ من ذلك اليوم، وبعد اثني عشر شهرًا من محرقة أكلت الأخضر واليابس والحجر والشجر والوبر والمدر، وبعد إبادةٍ قطعت صلة خمسين ألف شهيد بالدنيا، وبترت أوصال الآلاف بين مئة ألف جريح وهم أحياء، وشرّدت مليوني إنسان من بيوتهم الآمنة، وجعلت غزّة تبدو بقعةً سوداء مشتعلةً طوال الوقت على الخريطة، كأنّ أحدهم كشطَ عليها بقلم رصاص، ثم أشعل فيها نارًا تأكلها ذرّةً ذرّةً، ولا تخمد أبدًا، تتسلّى بها على مهل. يُومض الجمر، وتحترق الجثامين، وتسقط الأشجار، ويبكي البحر، وغزّة كما هي بصدرٍ مشتعل وعيونٍ كفيفة وسمع هشٍّ ولسانٍ جريح، وتحاول رغم ذلك كلّه أن تبقى آنفة في السماء، كبرياءً واعتدادًا بنفسها وبنيّها.
يسأل البعض بعد عامٍ كاملٍ ذلك السؤال نفسه، بين من يتساءل بنيّة المُشفق الضعيف الذي لا يعرف من أين تأتي أقدار الله وإذا ما كان بأيدينا وقفها، وبين من يتساءل مرجفًا لا يريد إلا تثبيط النفوس وطعن المخلصين ووضع الملح على سحجات الجريح، ليطرب بصراخه، ويدخله غيبوبةً جديدة، يتحدّث فيها بلسانه، ويكذب القول عنه، ويقول هذا هو لسان الجرحى يخبرك: ليت الطوفان لم ينفجر، ليت المياه لم تسل، ليت النهر لم يجرِ، ليتك قعدت ولم تناطح بيدك المخرز، ليتك لم تكن ندًّا لمحتلٍّ تقف معه قوى الكون، ليتك ابتلعت إهانتك واحتلالك وإبادتك البطيئة وسكتّ.
والحقيقة، وبعد عام كامل من يوم السابع، أنّ ذلك الاحتلال لم يكن ينتظر "طوفان الأقصى" لينكّل بغزّة ويحاول إلقاءها في البحر، تلك الخطّة كانت عنده منذ زمن طويل، ولولا مباغتة غزّة له لكان هو من يباغت العالم كلّه، بأن يقضي على غزّة ويحدّد هو كيف تسير الأمور، متى يشنّ عدوانه، وكيف، وأين، بينما تُوضع المقاومة في صفّ الدفاع عن نفسها وشعبها لا أكثر، بدلًا من أن تهاجم هي، وتختار موضع ردّ الفعل على كلِّ الأفعال الإسرائيلية الشنيعة، فتحدّد هي موعد الدفاع، حين تقرّر الهجوم، وتضع العدو في مأزق، حين تقضي هي على "فرقة غزة" التي كانت أكثر فرق الاحتلال درايةً بها، فتصيبه في مقتل، وتسعى لقلب الموازين، وتغيّر وجه الأرض في ذلك اليوم، بأنّ بضعة آلاف من شبّان مقاتلين غير مجهزين إلّا بما أفاضت به عليهم الأرض والسماء، يهاجمون محتلهم، ويأتونه بحرًا وبرًا وجوًا، ويلفظونه من أرضهم، ويمرحون هم في أراضيهم المسلوبة، بذلك اليوم، الذي لم يكن سيأتي أبدًا، لو بقيت غزّة مئة عام أخرى، تدافع، دون أن تغيّر.
إن بدت الأرض ظاهريا كأنّها انكمشت، فإنّ فكرة تحريرها اتسعت
صحيح كلّ تلك الدماء لم تكن لتخطر على بال أحد، لا المقاوم ولا العدو الظالم، ولكنّها سالت جماعيًا في تلك الإبادة الكاملة، وقد كانت ستسيل بالقدر نفسه وأكثر ببطء، بينما تتآكل فكرة المقاومة والقضيّة وفلسطين، بدلًا من أن تتعزّز بذلك القدر، داخليًا وعربيًا وإسلاميًا وإقليميًا وعالميًا، حتى غدت أيقونةً لشعوب العالم، ورمزًا للتحرير، وبالتأكيد ليست دماء غزّة ثمنًا لهذا ولا مقابلاً رخيصًا له، وإنّما هي أقدار الله في تتابع الأسباب والنتائج لا أكثر.
ليس هذا الوقت للحكم على الطوفان، فتلك أولى حلقاته، وإنّ غداً لناظره قريب، حيث لم يدع حارةً في بلاد العرب إلا وصل إليها، ولم يدع دولة في الدنيا إلا دخلها وسمعت بأمره وأثَّر بها، ولولاه لكانت ستُصفّى القضيّة، ويُقبض الثمن، وتضيع الأرض إلى الأبد. أمّا اليوم، فإن بدت الأرض ظاهريا كأنّها انكمشت، فإنّ فكرة تحريرها اتسعت، واتساع الفكرة أولى من اتساع البقعة، لأنّهم سيسلبونها منك شبرًا شبرًا حين تغيب الفكرة، أمّا الفكرة حين تتسع، فإنّهم لن يسلبوا منك استردادها ولو لم يتركوا لك منها غير شبر واحد؛ وتلك من أعظم فضائل الطوفان.
أمّا هواة التعايش والعيش بين مطرقة العدو وسنديان عملائه، ولا مشكلة لديهم بألا يقوم سابع ولا ثامن، وأن يسقط ذلك التاريخ من التقويم، فليسوا أهلًا ليقرّروا؛ لأنّ غزّة لن تكون غزّة، إذا ما كان هؤلاء هم أهل خيارها.