أميركا التي تقاتلنا وتقتلنا

20 يونيو 2024
+ الخط -

أَبانَ انخراط أميركا الكامل في العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة أنّ ما جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل أضرّ بشكلٍ مباشرٍ بمشروعها في المنطقة، المتمثّل في استكمالِ التطبيع، وتسليم إسرائيل مفاتيح الشرق الأوسط مع ضمان تفوّقها العسكري والاقتصادي والأمني، وانطلاق عجلة الشرق الأوسط بقيادةٍ إسرائيلية، هيمنةً ونفوذًا وقرارًا، مقابل أن يحتفظ الأميركي بالمصالح والمقاربات والأحزمة.

ورغم استحضار المصالح المُشار إليها أعلاه في تفسير السلوك الأميركي المُعادي للفلسطينيين والمُنحاز بالكامل للإسرائيليين، إلا أنّه لا يمكن استبعاد الحقد الشخصي الذي يستحوذ على الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، إزاء الفلسطينيين، فلا يُمكن تفسير مُجمل المقاربات الأميركية من حرب غزّة منذ بدايتها من منظورِ المصالح المجرّد فقط، وإنّما لا بدّ كذلك من استحضار البعد الأيديولوجي لهذيْن السياسيين تحديداً، فكلاهما عبّر بشكلٍ مباشرٍ عن صهيونيته وتكريسه حياته لرعاية ودعم المشروع الصهيوني، كما ثمّة لمسة صهيونية في خطابهم ومقارباتهم في هذه الحرب، إلا أنّ العصي على الفهم هو ابتلاع  هذه الإدارة كلّ إهانات نتنياهو وازدرائه لها، والتي وصلت إلى حدّ الوقاحة.

وفي سياقِ دفاع أميركا المستميت عن إسرائيل، تُواظب الدبلوماسية الأميركية على دعم الأهداف التي يضعها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وتعمل على توفير الغطاء السياسي والدعم العسكري لها. فوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وفي معرض حديثه قبل أيّام عقب تلقي النص الرسمي لردّ حماس، قال إنّ إسرائيل وافقت على الصفقة التي طرحها بايدن من دون أيّ تعديل، لكن المشكلة تكمن (من وجهة نظره) في أنّ حماس وضعت تعديلات!

للأسف، لسنا أمام دبلوماسي بحجم دولة كبرى كالولايات المتحدة، إنّما أمام شخص تسيطر عليه انتماءاته الأيدولوجية الصهيونية كما عرّف عن نفسه منذ اليوم الأوّل لهذه الحرب. وهنا يمكن القول إنّه من الطبيعي جدًا ألا تضع إسرائيل أيّة تعديلات، فتلك الصفقة صفقتها كما قال الرئيس الأميركي نفسه، الذي اقتصر دوره على عرضها فقط. فكيف يمكن توقّع أن يعدّل الطرف الذي صاغ الصفقة على صفقته! وكيف يمكن أن تطلب من الخصم أن يقبل صفقة خصمه وعدوه من دون تعديلات! الحقيقة أنّ هذه المقاربة هي منتهى الانحياز وتغييب المنطق، بل والضمير أيضًا.

كيف يمكن أن تطلب من الخصم أن يقبل صفقة خصمه وعدوه دون تعديلات؟

عقب ثمانية أشهر من حرب الإبادة، لم تكن مفاجأة بالنسبة للفلسطينيين اكتشافهم أنّ أميركا هي من تقاتلهم وتقتلهم، وأنّ نُظمًا عربيةً تُواصل محاصرتهم، بل وتُحاصر كذلك حراك شعوبها المناصر لفلسطين وتقمعه، وتخشى من هزيمة إسرائيل وانتصار المقاومة. فهذه الحرب أعادت أيضاً تعريف المفردات، فعرب 48 أصبحوا "عرب إسرائيل" كما كان يحلو لبعض الدول العربية تسميتهم، وهي الدول التي تشن حربًا إعلامية شعواء ضدّ المقاومة الفلسطينية، حيث تُحمَّل الضحية مسؤولية مقاومتها القاتل، ورفضها التسليم له باحتلالِ أرضها. كما يُغيّب هؤلاء، وبشكلٍ متعمّد، حقيقة أنّ إسرائيل تحتل 99% من أرض فلسطين، ويجرّم هؤلاء انتفاضة الفلسطينيين حتى في غزّة التي لا تشكل 1% من أرض فلسطين التاريخية، في حين أنّ إسرائيل التي تحتل 99% من أرض فلسطين مشكورة على تأجيلها إبادة الشعب الفلسطيني، بل وتحمّل من بقي منه طيلة هذه السنوات التي سبقت السابع من أكتوبر!

وممّا كشفته غزّة أيضاً أنّ مقولة "لا أحد يموت من الجوع" غير صحيحة، فقد ماتَ الغزيّون من الجوع وما زالوا يموتون، ومن القهر والمرض أيضًا، ولكن صحيح أيضاً أنّهم صامدون رغم كلّ الوجع، وأنّهم سطَّروا معجزةً في التصدّي لأعتى غزاةِ العصر الحديث.

مقولة هذا المقال أن أميركا تقاتلنا وتقتلنا تتجلّى في تحوّل وزير خارجية أكبر دولة في العالم إلى تبني خطابٍ سادي يبرّر فيه استعمال الغذاء والدواء أداة في الحرب، إذ يرى أنّ رفض حماس مقترح الصفقة يعني مزيدًا من معاناةِ المدنيين، لنكون أمام الدبلوماسي الذي يمثل أعرق "ديمقراطية" في العالم، ويُشرعن في الوقت نفسه، بشكلٍ أو بآخر، استعمال التجويع سلاحًا، والمدنيين ورقة للضغط السياسي. وإذا لم يكن هذا إرهاب الدولة، فما هو إذا؟

أخيرًا، إنّ تحذيرات نتنياهو من "حرب أهلية في إسرائيل" تعني أنّه وصل إلى مرحلةٍ من الذعر والهستيريا شبيهة بما كان يعانيه الديكتاتوريون والطغاة العرب قبل سقوطهم، إذ كانوا يخرجون ويحذرون شعوبهم من حرب أهلية، ما يعني أنّ نتنياهو يأخذ كيانه نحو الهاوية التي يقف على حافتها تماماً.

C2A96DF8-EEBE-40B9-B295-1C93BEABA19C
محمد أمين
كاتب وإعلامي فلسطيني مقيم في لندن، أكمل الماجستير في الإعلام في جامعة برونل غرب لندن.عمل صحافياً ومنتجاً تلفزيونياً لعدد من البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية لصالح عدد من القنوات العربية والأجنبية، يكتب حالياً في شؤون الشرق الأوسط ويختص في الشأن الفلسطيني.