ألقاب مسؤول لم يسأله أحد
عبد الحفيظ العمري
واحد من أمراضنا العربية، هو التفاخر بالألقاب. وهذا التفاخر تجده في محبة العربي الاحتفاظ بلقب ما ناله فيما مضى؛ فنجد عبارة "الوزير السابق" و"المدير الأسبق"... تسبق كلّ لقاء إعلامي معه أثناء التعريف به.
أقول لا بأس في ذلك، لكن الإصرار على ذكر الماضي التليد لهذا المسؤول أو ذاك، عندما كان يدير الوزارة الفلانية أو المصلحة العلانية، يُظهر مدى حبّ المجتمع العربي لحمل الألقاب.
مع علمنا أنّ لفظة "المسؤول"، نفسها غير صادقة؛ وذلك لأنّ حاملها مسؤول لم يسأله أحد، ولم يخضع لأيّة مساءلة، من أيّ نوع كان!
إنّ المسؤولين العرب من المحيط إلى الخليج خارج أيّة مساءلة، ولو كانت هناك مساءلة حقيقية لهم على تصرّفاتهم أثناء حملهم المسؤولية التي أوكلت إليهم، أو بعد خروجهم من المناصب، لما كان حالنا هكذا مزرياً!
ويبدو أنّ أزمنة السقوط تتشابه ملامحها مع اختلاف البيئات؛ فها نحن نعيد ما قاله شاعر أندلسي عن ملوك الطوائف المتناحرة هناك في الأندلس، وذلك في الزمن الذي سبق السقوط المدوي وخروج العرب من الأندلس عام 1492، إذ كان أولئك الملوك بضعة وعشرين أميراً للمؤمنين، وبعضهم لا يحكم إلا قرية واحدة وضواحيها، ويُلَقَّبون بالألقاب العظيمة وألقاب المُلك والأُبّهة: كالمعتضد بالله، والمعتمد على الله، والمستنصر بالله، والقاهر بالله ... إلخ، الأمر الذي دفع الشاعر للقول:
مما يُزَهّدني في أرضِ أندلسٍ ... أسماءُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ
ألقابُ مملكةٍ في غير موضعها ... كالهِرِّ يحكي انتفاخًا صَوْلةَ الأسدِ
فما أشبه الليلة بالبارحة!
أثقلتنا الألقاب التي نحملها، وكأنها أوزار على ظهورنا! ألقاب "نتفاخر" بها، وما نحن إلا لقَبٌ مُلقَى على اللّقَبِ
ولم ينتهِ الأمر عند الألقاب السياسية، فقد جاءتنا الألقاب العلمية مع تنامي القاعدة الجماهيرية العربية للدراسات العليا خلال العقود الأخيرة، فانتشرت الألقاب الأكاديمية بين الناس، ولعل لقب الدكتور، واحد من أشهرها، على الرغم من أنّ العامة تخلط بينه وبين الطبيب، فينادون الكلّ بالدكتور! بل وصارت حتى مختصراتها مشهورة للجميع، كالدال والميم والـ أ.د. بيد أنّ أغربها يبقى لقب "الدكتور الشيخ فلان"، على اعتبار أنّه يحمل درجة الدكتوراه وهو شيخ دين!
أقول: لقد أثقلتنا هذه الألقاب التي نحملها، وكأنها أوزار على ظهورنا! ألقاب "نتفاخر" بها، وما نحن إلا لقَبٌ مُلقَى على اللّقَبِ، كما يقول الشاعر المتنبي، من مقطوعة قالها في صباه يهجو بها القاضي الذهبي:
سُمّيتَ بالذّهَبيّ اليَوْمَ تَسْمِيَةً ... مُشتَقّةً من ذهابِ العقلِ لا الذّهَبِ
مُلَقَّبٌ بكَ مَا لُقّبْتَ وَيْكَ بهِ ... يا أيّها اللّقَبُ المُلقَى على اللّقَبِ!
وبالعودة لألقابنا في هذا الزمان، نجد أنّ لا "الدال" دالٌ على شيء، وما "الميم" إلا جزء من فنّ الميم الهزلي! وبالتأكيد، ستقولون، طبعاً: "إلا ما رحم ربي". فأقول: "وقليلٌ ما هم!".
وأنا حقيقة بدأت أشك في أصحاب "الدال" ومدلوله، لأنّ منشورات البعض منهم في "فيسبوك"، وليس الكل، لا تدل على دال، بل على ذال!
وحتى أكون منصفاً، ليس النقد موّجها لمدلول "الدال" فقط، بل ولمدلول "الميم" أيضاً، والذي أنا محشور في زمرته!
تصرفاتك ومواقفك هي ما تمثلك، وليست الألقاب والشهادات التي حصلت عليها
إنّ مدلول "الميم" يُطلق على المهندس أو المعلم أو أصحاب مهن أخرى، لكن الغالب عليه دلالته على المهندس. وقد رأيت كثيرين ممّن لم يتخرجوا من كليات الهندسة يرفعون هذا الشعار على ورشهم أو أمام أسمائهم. لذا أقول: "إن كنت حقاً تجيد العمل الهندسي، فأنت جدير بهذا اللقب، بغضّ النظر عن الشهادة، أمّا كونك لا تحمل مؤهلاً علمياً، ولم تمارس عملاً هندسياً، أيّ عمل هندسي، فمِنْ أين لك أن تحمل هذا اللقب؟
كما أنّنا نجد في أكثر الكتب التي تُترجم لنا من الغرب، يكتبون اسم الكاتب بدون أي لقب، هكذا مجرّداً: ألبرت آينشتاين، ستيفن هوكينغ، بول ديفيز، روجر بنروز... ثمّ يتم وضع ملحق بالسيرة الذاتية، وفيها التفاصيل. فما بالنا، نحن العرب، المغرمين بكثرة الألقاب؟
وفي هذا المجال أذكر قصة لوالدي، رحمه الله. فعندما كنت طالباً في الإعدادية/ المتوسطة، صنعتُ من كرتون صغير مثلثاً، وكتبت عليه "ط/ عبد الحفيظ العمري"، ثم وضعته على الطاولة التي أذاكر عليها. وعندما دخل والدي رحمه الله، غرفتي وشاهد الكرتون الصغير، قال: "إيش معنى (ط)؟". قلت له: "طالب". فقال: "وتنفع "طرطور". فضحكتُ من نفسي، ورميتُ بالكرتون!
لذا أقول يا صديقي الغالي: في قاعة الدرس بالجامعة أنت الدكتور، ولا أحد يستطيع أن يقول غير ذلك. لديك مؤلّف ضع لقبك عليه، لكن لا تحشر اللقب العلمي في كلّ صغيرة وكبيرة تعملها، فأنت الكبير بلقب أو بدون لقب.
أمّا الذي يختفي وراء كوم الألقاب والشهادات، فأقول له: كلّ الشهادات التي حصلت عليها، وكلّ الألقاب التي ترصّ اختصاراتها أمام اسمك المجرّد مثل رُتَبْ ونياشين كولونيل، ليس لديه ما يفعله! وكلّ المصطلحات الشرقية والغربية التي "تدلقها" علينا في مناقشاتك، إذا جمعنا بك مجلس أو نادٍ... كلّ هذه الألقاب لا تمثل شيئاً لديّ، لكي أقتنع بك أنّك مثقف أو من النخبة.
مقياسي الحقيقي هو: ما هو موقفك من الخرافة؛ هل تصفّق لها وتتخلّى عن التفكير العلمي الذي صنع منك أكاديمياً؟ هل ترمي بالتفكير العلمي وراء ظهرك من أجل مصالحك؟
تصرفاتك ومواقفك هي ما تمثلك، وليست الألقاب والشهادات!