أفراح عن بعد

01 سبتمبر 2024
+ الخط -

 

لم ولن تتوقّف الأفراح مهما استطالت الحروب وتفاقمت المجاعات وتضاعف حجم الغياب.

تحضر الصورة بدلًا من صاحبها، وصاحبها هنا حيٌّ يُرزق لكنّه غائب، غائب وعاجز عن الحضور والمشاركة في عرس شقيقته أو ابنه، عاجز عن المشاركة في حفل تخرّج صديقه وشقيقه وابنه! تحضر الصورة ممسوكة بيد أحد أفراد العائلة وربّما مكبّرة ومثبتة على كرسي مجاور لأفراد العائلة.

وحضور الصورة بحجم كبير وبشكل أنيق ولامع صار شريكًا بارزًا خاصّة في الأعراس، على الرغم من أنّه لا صورة مهما كانت نضرة وكبيرة ولامعة تُغني عن الحضور الشخصي، تأكل الصور المكبّرة بعناية فائقة من معنى الحضور الفيزيائي الحيّ والعاطفي، يصير العروس صورة من الماضي مهما كان قريبًا، صورة هامدة وباهتة تصيب كلّ من ينظر إليها باضطراب الوجود وسؤال أين؟ ولماذا.

هل تحقّق الصورة مبتغاها ويتحوّل الفرح البعيد إلى فرح مجاور، قريب، حقيقي هنا؟ تبقى المشاعر ناقصة مهما اندمجت المشاركة من بعد في الحدث الدائر هناك!

نجح السوريون والسوريات في تجاوز عتبة الغياب خاصّة في الأفراح، لكنّهم فرضوا معادلة جديدة وسؤالًا مضنيًا، عن معنى الـ "هنا" ومعنى الـ "هناك"، هل لكلٍّ منهما قوّة الحضور الجسدي والمعنوي والعاطفي نفسها؟ كلّ الأخبار الواردة من هنا ومن هناك تؤكّد خفّة الحضور في زحمة الغياب، لكنّها المسافات المتوحّشة ستصفعك بسوط الفقد إن لم تحتل عليها وتنهض البعيد من غربته وتقيمه هنا بيننا في قمّة وجود متلاعب به، هشّ، يوقظ الأسئلة، يحرق العيون بالدموع ويبدو كلّ تفصيل خاضعًا لإضافات جديدة عبر الصوت والصورة.

ارتدت بتول فستانها الذي اشترته لعرس وحيدها، صفّفت شعرها كما ينبغي لأمّ عريس، وهناك عبر الشاشة القريبة البعيدة، كان الابن وعروسه يرقصان فرحًا في يوم عرسهما، والأمّ جمعت بعضًا من صديقاتها الخُلّص وأقمن حفل عرس موازياً، تقطّعت الموسيقى ما بين الـ هنا وما بين الـ هناك، أغنية من حفل الأمّ، زغرودة، رقصة، تحية، قبلات ومباركات مرسلة عبر الفضاء الإلكتروني، لتبدأ الجولة التالية! وربّما الفقرة الثانية، إذ تحوّل العرس إلى حفل بمشاهد مجزّأة من دون أيّ إشارة أو توضيح من المخرج، لا مونتاج فنّياً للعرض الحيّ الذي يحدث على الشاشة وعلى أرضين بعيدتين إحداهما عن الأخرى جدًّا، مشهد من هنا يتوقّف بعد مدّة محدّدة ليُباشَر بمشهد من هناك، وربّما على أطراف الصورة تدور مشاهد جانبية تكره الانفصال الإلزامي والتوقّف بأمر من المصوّر المتحكّم في اللوحة الأصلية على كلّ أرض.

يتداخل وهم الفرح في العجز عن الحضور، يبقى الحدث مفرحًا رغم الغياب، لكنّ المشاركة الحقيقية حين تتّصل الأجساد بحميمية اللحظة ستكون فاترة رغم الانهماك بإظهار الفرح

تتدرّب الأمّهات والأخوات والآباء على إدرار دموعهنّ في لحظة تغييب الكاميرا أو إبعادها عنهنّ/م، الغياب عن الصورة عمدًا يعني فسحة للبكاء دموع تسيل في الزوايا غير الواضحة، قبل الفرح وبعده! تتدرّب السوريات على التحكّم في ردود أفعالهنّ وبادّعاء سرور غامر يوازي سطوة الحضور وكأنّ الأمّ والأهل في جوار العروسين وبينهما.

طلبت سهام من زوجها حمل صورة ابنهما المسافر أثناء حفل تخرّج ابنتهم، لم تكن قادرة حتّى على حمل صورته، صرخت قبل مغادرة المنزل قائلة لتبرّر رفضها حمل الصورة: أشعر وكأنّي أحمل صورته في جنازته! في هذه اللحظة يتكثّف الغياب في عزّ الفرح حتّى يغدو موتًا محتملًا أو رعبًا منه يوازي كلّ المخاوف المستترة والمعلنة، الفائرة والغائصة بعيدًا، لكنّها سرعان ما تنفجر كنبع هادر، وما يبدو فرحًا من بعد هو في الحقيقة حزن قريب جدًّا وملاصق للروح والجسد.

يتداخل وهم الفرح في العجز عن الحضور، يبقى الحدث مفرحًا رغم الغياب، لكنّ المشاركة الحقيقية حين تتّصل الأجساد بحميمية اللحظة ستكون فاترة رغم الانهماك بإظهار الفرح، ملفوفة بالعجز، مغمسة بالمسافات التعجيزية وبالحدود القهرية العصيّة على الاختراق.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.