فرصُ التعبير الطارئة
فجأة، وجدَ السوريون والسوريّات أنفسهم في بلادٍ غريبة، كلُّ تفصيلٍ يلبس ثوبًا انقلابيًّا مهما كان بسيطًا. عاداتُ الطعام اليوميّة، أسماء الخضار وتركيبتها المختلفة، وإن حافظت على الشكل نفسه، الرائحة بحدِّ ذاتها شكّلت أزمة صادمة للجميع؛ رائحة اللحم، العطر، مواد التنظيف، حتى رائحة الأرض بعد المطر مختلفة، وكأنّ التراب مختلف، أو أنّ المطر هنا له عطرٌ خاص.
اختلافُ النكهة يكاد أن يكون أكبر تجلّ للافتراق القسري والحاسم عن مرحلةٍ عمريةٍ كاملة، زمنًا ومكانًا وتفاصيل. وربّما، يصيرُ التذوّق بحدِّ ذاته هُويّة حسيّة وعاطفيّة ضُمنيّة مُعلنة من خلال اندهاشٍ جديد وحاد ممزوج بالرفض، وربّما بالدعوات للصبر الطويل للتمكّن من القبول أو التأقلم، أو على الأقل تفسير الرفض المتطرّف للنكهاتِ الجديدة الطارئة، التي تتحوّل إلى أحد أشكال الفروض القسرية على مناحي الحياة الجديدة كافة.
النكهة ليست إرثًا ثقافيًّا وحسب، بل هي عمليّة انصهار فرديّة ما بين الجسد وصاحبه، ما بين المشاعر وأصحابها، ما بين العقل واضطراره للتقبّل، وما بين القلب وهيامه بعدم الاضطرار لتقبّل أيّ شيءٍ جديد، يهزّ من صلابةِ الحياة السابقة، والمطلوب استمرارها بسلاسةٍ أكبر وأكثر عمقًا وثباتًا. أمّا التعامل مع ذواتنا وكأنّنا سيّاح عابرون لوقتٍ قصير نختبرُ ثقافات سوانا، ونعودُ بعدها بسرعةٍ وطمأنينة لأحوالنا السابقة، لأمكنتنا ونكهاتنا وحواسنا كلّها، فهو حكمًا تعامل مزيّف وآني، سيصطدم فورًا بقوّة الواقع، وبضرورة وعي أنّنا هنا الآن، حيث لا خيار لنا بالتردّد في التقبّل غير المشروط أو التكيّف الجزئي في أسوأ الأحوال.
التعامل مع ذواتنا وكأنّنا سيّاح عابرون، هو حكمًا تعامل مزيّف وآني
تبدو فرص التعبير الطارئة محدودة جدًّا، ذاتية ومنغلقة على ذاتِ أصحابها، إنّه شكل من أشكال المجاملة الطارئة أيضًا، لكنّها مجاملة مكشوفة وخادعة، ستخبرك أمعاؤك بأنّها ما زالت تُعاني من الجوع، حتى أنفك سيقول لك بأنّه متحفّز بتوتّرٍ شديدٍ وقلق، وأنت تأكل محاولًا التغلّب على تلك الرائحة الفائضة عن حاجتك، رائحة لست فقط لا تحبّها لكنك لا تحتاجها، لأنّك مُترع بالروائح المكتملة، وخيالك عاجز عن منح روحك فرصة لتقبّل كلّ ما هو جديد، وجلّ رجاءك أن تكون تلك الروائح عابرة ومؤقّتة جدًّا ومحدودة ضمن إطار عملية وجهد نوعي تبذله لتكوين روائح (نص نص)، روائح مُتلاعب بها ومشغول عليها بحدّة وانفعال حسّي وحركي متوتّر، لا يكمن التحايل بالتلاعب بالمزيج أو بتغيير المكوّنات، بل بالمواد الأصليّة الداخلة في عملية التركيب الطارئة! أي أنّك في العمق تتلاعب في الظاهر، ويبقى الباطن محافظًا على نفسه بغلبةِ مُكوّناتٍ يختلف حجمها ووزنها لا أكثر، هي عمليًّا عملية إعادة تدوير للمكونات نفسها، لكن بتلاعب مغرٍ مع أنّك تعرف تمامًا أنّه خادع، خادع ولكن يدفعك إليه الوهم الكبير بأنّك تملك الفرصة على إحداثِ تغييرٍ حاسمٍ في خضّم تغييراتٍ طارئة وقسرية.
يبدو مقياس الجودة هنا ليس عاملًا حاسمًا، لأنّ الرائحة أو النكهة هي قبضة من الروح لا يمكن الحكم عليها انطلاقًا من مقياس الجودة، بل من مقياس التناغم، التلاقي، التكامل، وأخيرًا الانصهار في بوتقةِ المتعة الأصيلة الكامنة في زاويةٍ عميقة، لكنها تعوم وتنتشر بسرعة وكأنّها عابرة لكلِّ الحواجز ومخترقة لكلِّ الزوايا العميقة.
لا تغادر وطنك لتبحث عن رائحةٍ مُماثلة لرائحته، الطعام وشكله ونكهته، الملابس وأقمشتها وطريقة حياكتها وألوان أزرارها وأحجام عرواتها، الأماكن والعتبات والشرفات وحافلات النقل كلّها لا تشبهك! وأنت لا تطلب صورة طبق الأصل عن أمكنتك الراحلة، كلُّ ما ترجوه هنا، هو فرصة للتلاعب بوقائع يوميّة مختلفة وجديدة لتصنعَ لك منها زاوية واحدة تركن روحك إليها، لتقول هذا المكان يشبهني ولو في زاويةٍ واحدة منه، لأنّ التعبير هو التجلّي عن التغيير، فكلُّ طارئٍ متغيّر يستلزم تعبيرًا طارئًا أيضًا.