أغاني الأعراس اليمنيّة
عبد الحفيظ العمري
السيّارةُ تتهادى على وقع تضاريس الطريق الجبليّة التي نسير عليها، لم تكن سيارة واحدة، بل ست سيارات تُلاحق بعضها بعضاً في بدايةِ عتمةِ الليل، حيث الغمازات تتناغم على وتيرةٍ واحدة، والكشافات الأماميّة تُبيّن الطريق التي نسير عليها، والقرى المجاورة تبعثُ أضواءً باهتة، تلك الأضواء التي توفّرها الألواح الشمسيّة قدر المستطاع، خصوصاً مع تكاثف الغيوم طوال اليوم، فنحن في شهر يوليو/تموز، واحد من أشهر الصيف التي تهطل فيها الأمطار على مدينة إب اليمنيّة.
كنّا في موكبِ عرسٍ، سيره المتهادي وغمازات السيارات المتردّدة تشي بذلك، ونطلق عليه في اليمن، موكب "الشَوَاعَة" (الذين يرسلهم العريس لإحضار عروسه من بيت أبيها، وعادة ما يكونون من الأقارب وبعض الجيران. واللفظة عامية، إلا أنّ اشتقاقها من الفصيح واضح؛ فالمشيّع هو المرافق لآخر تكريماً له).
وفي موكبنا هذا، كانت تتعالى أصوات الأغاني، أغاني العرس، وهي ما يستحق أن نتوقف عنده.
الأغنية/النشيد في الأعراس
يكثرُ الخلط بين الأغنيّة والأنشودة، والفرق ليس كبيراً؛ فمجرّد خلو الكلمات من آلاتِ الطرب يجعلها أنشودة والعكس بالعكس، وبذا ترى كثيراً من الأناشيد صارت أغاني، وفي المقابل أغانٍ جُرِّدت من المعازف، فصارت أناشيد! ولن نطيل الوقوف عند هذه النقطة، وسنسمّيها كلّها في هذا النص أغاني.
انعكس التنوّع في النسيج الاجتماعي اليمني على أغاني العرس لدينا؛ فاليمن كان ملتقى الأديان السماوية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وكذلك لدينا ثلاثة مذاهب إسلاميّة: الشافعية والزيدية والإسماعيلية، فضلاً عن التنوّع الجغرافي واللهجات.
ولهذا تسمع في العرس أغنية تقول:
بسم الله
في أول العرس نبدأ
بالمولى… الله يا الله
وبالرسول المشفّع
يا فتّاح… الله يا الله
افتح لنا سيدي بابك
واجعلنا يا ربُّ من جملة أحبابك.
هذا موشّح كانت تنشده جمعية المنشدين اليمنيين في الماضي بدون موسيقى، واليوم صار أغنية مع بعض التحريف للألفاظ؛ إذ كان: "في أول الذكر نَبْدَعْ"، ونَبْدَعْ، بالعامية اليمنية، تعني: نبدأ. فأصبح: "في أول العرس نبدأ"، مع احتفاظه بإيقاعه القديم. وهذه الأغنية ستكون بالطبع محصورة على اليمنيين المسلمين.
لكن تعال إلى أغنيةٍ ثانية تقول كلماتها:
اشتي حَرِيْوَهْ حالية من بنات اليمن...
أدعي لربي وأقول لمن حياتي وقلبي لمَنْ.
بنت اليمن مَحْلاش حِنْ بَديتي...
قد زَلّتْ الساعة ولا دريتي.
بنت اليمن يا غصن بين الأغصان...
يا خل يا وردة بوسط بستان.
ومعاني ألفاظ العاميّة اليمنية المذكورة في النص، نوضحها هنا، فمفردة "حَرِيْوَه"ْ تعني عروسة، مثلما "حَرِيْوَ" يعني العريس! ومفردة "محلاش" تعني ما أحلاك (الشين من كشكة قبيلة ربيعة التي كانت تضيف حرف الشين إلى كاف ضمير المؤنث)، ومفردة "حِنْ" تعني عندما، و"بَديتي" تعني ظهرتِ، و"زَلّتْ" تعني راحت. وهذه الأغنية من التراث اليمني اليهودي، بيد أنّ الكل يترنّم بها، وليست مخصوصة باليهود اليمنيين فقط. ومثلها أيضًا أغنية "يا هزلّي" التي غناها الفنان أحمد فتحي، لكن بكلماتٍ أخرى مع بقاء نفس إيقاع الأغنية اليهوديّة الأصلية.
وهناك أغنية الزفة التي تقول كلماتها:
مرحباً.. يا نور عَيني؛ مرحَبا
مرحباً.. جدَّ الحُسينِ.. مرحَبا
"يا "حَرِيْو" الله يسرّكْ، مرحَبا
وأدامَ الله سُرورك.. مرحَبا
مرحباً... مَرحَباً ببدر التَّمامِ
يا هلالاً.. بَدَا بجُنح الظلامِ.
أو أغنية ثانية تقول كلماتها:
أزكى صلاةُ الله تغشى الرسول
ثم الوصي وابنيهما والبتول
يا بدر هذا العرس نلت المنى
حسنك بديع أبْهَرْ جميع العقول.
هنا تلتقط النفَس الشيعي واضحاً في كلمات "الحسين" و"الوصي" وغيرها. ولا غرابة في ذلك، فالمذهبُ الزيدي واحدٌ من أهم المذاهب في بلادنا، ومع ذلك فهذه الأغنية ليست محصورة على أتباع المذهب اليمنيين وحدهم، بل يردّدها الجميع.
مع أيوب طارش
هناك أغنية عرس يمنية مشهورة ارتبطت بالفنان اليمني الكبير أيوب طارش؛ هذا الفنان الذي غنّى لليمن أرضاً وإنساناً، فلمَ لا يغني للعرس؟!
تقول كلماتها:
رشّوا عطور الكاذية
على العروس الغالية
وعوَّذوها بالنبي
وادعوا لها بالعافية
يكفي عريسك يا عروس
هذي العيون الساجية
يا ليلة العمر الهني
طولي بفرحه هانية
خلّي العروسة والعريس
فوق النجوم السارية.
وبالرغم من أنّ الجو جو أعراس، إلا أنّ الفنان الكبير لا ينسى الأرض، فيضمنها في أغنيةٍ أخرى له عن العرس تقول كلماتها:
يا صباح الرضا على مشارف بلادي
الشيوخ والشباب، حتى الذي بالمزابي
يا بكور، افرحين وزينين البوادي
زغردين، وارقصين، على وصول الجرابي
والشباب الشباب، الأسُد أهل الأيادي
بالسيوف البَرَع، والشَرْح يشتي جنابي.
ونوضّح هنا بعض المعاني في الأغنيّة، فمفردة "المزابي" تعني الأطفال الرضّع، و"الجرابي" هي جمع جِرْبة، وتعني الأرض التي تُزرع، وتقابل لفظة: الحقل، و"البَرَع والشَرْح" فتعني نوع من الرقص، و"الجنابي" هي جمع جَنْبِيَةْ، وهي الخنجر اليمني المعروف.
وهذه الأغاني ليست محصورة على مدينة تعز (بلد الفنان) بل يترنّم بها اليمن كله. وهكذا تظل أغاني الأعراس اليمنية، على تنوعّها، معبّرة عن التنوّع الخلّاق لهذه الأرض، فلقد جمعتنا هذه الأغاني بقدر ما فرّقتنا السياسة.
هل وصلنا إلى بيتِ العريس؟
نعم، فها هي الألعاب الناريّة والرصاص الحي (للأسف) تملأ الفضاء في أصواتٍ صاخبة ممتزجة بأصواتِ الزغاريد المنطلقة من حناجر النساء المنتظرات في غرفة "القبض"، حيث سيجلس العريس وعروسه على الكوشة.
ألف مبروك لكلِّ عريسٍ وعروسة.