أبو سطام يعترف: أنا مسخرة

06 اغسطس 2023
+ الخط -

كان أبو سطام يحكي لي تفاصيل الجولة الإحصائية التي خرج بها مع زملائه، وفجأة توقف، وقال: أنا إنسان مسخرة.

نظرت إليه متعمقاً فيه، محاولاً اكتشاف الأسباب التي دفعته إلى هذه الانعطافة العجيبة، فقال: أين الغرابة في كلامي يا أبو مرداس؟ عادي جداً أن يتباين الناس في أوصافهم، فيقال، مثلاً: أبو أحمد شخص مُعْتَبَر، أبو سلوم رجل مرموق، أبو إبراهيم يَدُه طائلة، أبو العمرين ضراب سكينتين، وأبو حسن فَتَّات مصاري، وأبو سطام مسخرة. ولعلمك أنا أرى أن الحق كله على والدتي. لو لم تتزوج، رحمها الله، وبقيتْ في دار أهلها، معززة مكرمة، لما جئتُ أنا، ولما تزوجتُ، ولما خَلَّفَتْ لي أم سطام كل هؤلاء الأولاد المناحيس!

- وصلت الفكرة سيد أبو سطام، أكمل لي الآن قصة الجولة الإحصائية الغريبة التي أمركم بتنفيذها مديرُ الإحصاء بمديرية الزراعة. ذكرتَ لي أنكم تناولتم طعام الغداء في جبل الأربعين، ثم جلستم في منتزه الفنار لصاحبه أبو منير فنري وشربتم شاياً ودخنتم أراكيل واشتغلتم في الإحصاء.

- نعم. وهناك وجدتُ نفسي نافعاً لأول مرة في حياتي، فعندما طلب أبو نديم من الموظفَيْن الآخَرَيْن أن يتخيلا أشخاصاً يشربون من القِلْد، لكي نملأ بهم البيانات الإحصائية، انعقد لساناهما، ولم يتمكن أيٌّ منهما من اختلاق حادثة واحدة، وأما أنا، فالكذب والتلفيق، كما تعلم، يجريان في شراييني، لذا سرعان ما انطلق لساني، وقلت لأبو نديم: اكتب أننا التقينا برجل يشرب من القلد بجوار سبيل حَنَنَان، غرب بلدة معرة مصرين، وكانت عنزتُه واقفة بقربه، تنظر إليه وقد خرج لسانُها من شدة العطش، ولكنه لم يستجب لتوسلاتها، وأجهز على ماء القلد كله، فهجمت عليه العنزة لتنطحه، فزجرها، وأمرها بأن تلتحق برفيقاتها في السرب، فامتثلت، وحينما غادرت العنزة سلمنا عليه، وقلنا له:

- هنيئاً بالعافية..

وتعرفنا عليه، واسمه "سفيان الطَقّ مُصَدّ"، ومن خلال محاورته توصلنا إلى أنه يعرف كل القلود الموجودة في الشمال الغربي من مدينة إدلب، فرافقناه، ودلنا عليها قلداً قلداً..

- عفواً، هل هذه الشروحات والقصص لازمة للبيانات الإحصائية؟

- البيانات الإحصائية الموجودة في القسم، قبل مجيء السيد سطام، كانت مختلفة، لأن مثل هذا الإحصاء لم يكن متداوَلاً، ولذلك اضطر أبو نديم لأن يسجل المعلومات على ورق عادي، غير مسطر. المهم، تابعتُ الإملاء على أبو نديم، قلت له اكتب: وكان القلد الثاني يقع على بعد 2500 متر شمال قرية كورين، وقد تبين لنا أنه كان ممتلئاً ونضب، ولا نظنه يمتلئ قبل أن يأتي الشتاء، المهم، تركناه ومشينا، ورأينا رجلاً يخرج من مغارة، اتجهنا نحوه وسألنا عن ظاهرة شرب الماء من القِلْد، فقال: اتبعوني... ونزلنا معه إلى المغارة، حيث رأينا أمراً غريباً للغاية، وهو أن سقف المغارة ينقط من عدة مناطق، وفي كل منطقة حَفَرَ الماءُ في الصخر قِلْدَاً بعمق شبر، وقال إن ماء القلود هنا أطيب من ماء القلود الخارجية المكشوفة، فهو نظيف وبارد كأنه مثلج.

ضحكت وقلت: خطرت لي فكرة يا أبو سطام.

- تفضل.

- لو كنتَ تعمل في مديرية الزراعة بشكل دائم، فلربما سببتَ لرئيس قسم الإحصاء الجديد عقدة نفسية. ولكن، من حسن الحظ أن وجودك هناك كان مؤقتاً!   

- المشكلة الأساسية، برأيي، أن السيد سطام العلي أراد أن يُنَشِّط قسم الإحصاء، لو ترك كل شيء على حاله لما ظهر لنا غباؤه بهذه السرعة. ولو أنه قليل الاعتداد بنفسه، وبأفكاره البهيمة، لكان طلب منا إحصاء معدلات استهلاك القمح في المحافظة، مثلاً، والمساحات المزروعة بالقمح، لمعرفة كفاية الإنتاج للاحتياجات السكانية... أو دراسة معدلات نمو الأسرة في الريف، أو عدد الحيوانات التي تستخدم في حراثة الأراضي، بالإضافة إلى الآلات الزراعية التي تحرث الأراضي، أو الآلات التي تحصد المحاصيل.. ولكنه طلب منا إحصاء الأشخاص الذين يشربون الماء من القِلْد في البراري، ولا يوجد أحد على وجه الأرض يستطيع أن يعرف ما فائدة هذا الأمر!

- نعم. ولعلمك أنا ما زلت متشوقاً لمعرفة المزيد عن جولتكم الإحصائية.

- كانت الأمور ماشية بلا معوقات، أنا أُمْلي على أبو نديم، وهو يسجل، وفجأة استوقفنا أبو محيو، الموظف ذو الصوت الضعيف، الذي يتكلم من منخاره، وببطء. وقال:

- علينا أن ننتبه لمسألة مهمة، وهي احتمال أن يخطر ببال الأستاذ سطام، رئيس القسم، أن يَخرج في جولة إلى البراري، ليتأكد من صحة المعلومات التي نسجلها، فهي تبدو غريبة.

أنا تولّيت الرد، قلت:

- إذا أراد الأستاذ سطام التأكد، فاتركوه لي، أنا مستعد أن أرافقه، وآخذه إلى البحر، وأعود به وهو ظمآن.

- كيف؟

- أقول له إننا التقينا الناس في البراري، ولا نعرف أين يسكنون بالضبط، ثم إن هناك أناساً يشربون من القلد، وهم بدوٌ رُحَّل، يغيرون مكان إقامتهم بشكل مستمر، حتى إن بعضهم يغادرون الأراضي السورية إلى لبنان، أو تركيا، أو الأردن، فهل يعقل أن تلحقهم حضرتك إلى الدول المجاورة لتتأكد من صحة إحصاءاتنا؟

قال أبو نديم: اطمئن أخي أبو محيو، صدقني إذا سألتَ رئيس قسمنا الفهمان عن الإحصائية التي كَلَّفَنا بها، لقال لك: أية إحصائية؟ وأنا متأكد أنه يحاول الآن أن يثبت لزوجته أنه إنسان ناجح، بدليل أنه وجد موظفين لا يعملون، فأوجد لهم عملاً يشغلهم. المهم باقي لدينا صفحة، هل بقيت لديك يا أبو سطام إحصائية أخرى؟

- اكتب.. ولعل أغرب ما رأيناه، خلال هذه الجولة الإحصائية، فلاح وفلاحة شابان، يرتديان ثياباً جديدة، والمرأة تلبس أساور ذهبية، ما أوحى إلينا بأنهما عروسان، وكانا يركضان ويضحكان، وعندما اشتد بهما العطش انبطحا مسندين أيديهما إلى الأرض، وشربا من قلدين متجاورين حتى ارتويا، ووقتها تقدم منهما زميلنا أحمد خالد الوعل، يعني أنا، وسألهما عن السبب في اختيارهما هذين القلدين بالذات للشرب، فقالت المرأة إن والدتها، عندما كانت على فراش الموت، أوصتها بأن تصحب زوجها، خلال شهر العسل، إلى هذه المنطقة، الواقعة إلى الشرق من قرية أرمناز، وأن يشربا من هذين القلدين، ثم يقرآ الفاتحة عن روحها.. وقد قالت قولها هذا، وأغمضت عينيها، وأعطتكم عمرها. والآن تم تنفيذ الوصية وأنتم على ذلك شهود.

(للحديث بقية)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...