يخشى أن تَسقط منه المدينة

22 يونيو 2015
أسامة دياب / سورية
+ الخط -
الباب الأخير

هُوَذا ينتفُ الأغنيّاتِ المبثوثةَ
وبجبينه الأبكم يقصقصُ ألسنةَ العويلِ
إنه - بابي، الذي لم يعد يتعرّف
إلى أحد سواي.

أحدٌ ما
"ينفض عن نفسه الأماني"*

أحدٌ ما
في وسعه، وفيما البابُ صارٌّ، أن يحمّلَ
الهواءَ المتعفّنَ في الغرفة
نغماتٍ.

أحدٌ ما
يبكي معي، يشتمني.

أحدٌ ما
يصعدُ معي إلى حِضن الله.
وبابي الـ تصلّي عنده كلُّ الطُّرُقِ متشابكةً ...

الطُّرُقُ؟
الطُّرُقُ تذكّرني
بِيدي على جسدكِ


* دانتي، بوابة الجحيم

 

عودة
وعدتَ إلى القامشلي
مفتّشاً عن أصابعك
وعن الذين خلّفتَهم.
ظلَّك كانوا، أُفُقَكَ.
في عراء أحلامك كانوا يجرحون
أقدامَ نظراتك.

وأخيراً، عدتَ..
ترنو إلى خطاك
إلى السماء؛
وكيف الجهاتُ ما زالت تنخُلُها
مَنائرُ الجوامعِ.

إعلاناً ما زلت تصفّقُ لطريق البيت
وعلى الأرصفة ما زالتِ الريحُ تلهث
وما زال...
وما زال...

وحدها المنازلُ
التي يؤلّفُ بينها صغارُها
تسقي خطاكَ..
ناهيكَ عن الكثير مما يحدث..،
حتى تُسندكَ إلى الباب المبسوطِ.

"وحيداً عدتَ"؟!
هكذا يقول الباب
ويقول:
في القامشلي
كثيراً ما ستشتاق
إلى القامشلي.

 

كرصاصة لن تقتلكَ
خاوٍ مقهى المدينة!
في ليلة كهذي، ما كنت لترى طاولةً شاغرةً
ولا نادلاً؛
يُهرَعُ إلى طاولتكَ بممسحته
قبيل أن يأتيك بالقهوة.
المقهى الذي ما كان يديرُ التلفزيون
إلا حين المباراة (ريال مدريد × برشلونة)!.

الآن
ثمة نادل، فحسب، يعمل فيه..
خبراً فخبراً، ينظّفُ بممسحته التلفزيونَ
خبراً فخبراً، يُهرَعُ إلى الطاولات
دونما أحد ينادي عليه.
وحده - مجنون المدينة، يظلّ متربّصاً بالمدينة..
حافياً، في الليالي القارسة، والرصاصُ يئزُّ.

ما الذي سيثيرُ قلقَهُ؟
لا أسرةَ ليُعيلها
لا مملكةَ سوى المدينة.
يا لمحاولاته!

صارخاً، ينادي على الذين يتركون المدينة وحيدةً
كما لو أنهم ذهبوا بِبُقْيا عقله،  كما لو أنه استفد تبغَهُ.

يصرخ تحت المطر
يحملق إلى الفراغ حواليه
إلى الدروب،  إلى المدينة..
يحتمي بأقرب مظلةٍ
ثم ينامُ كأنّ شيئاً لم يحدث!
صباحاً، تتوقف الحرب
بوسعكَ الاستماعُ إلى معزوفة لـ "شوبان"
فيما لو لم يحدث انفجار ما، فجأةً، شماليّ المدينة
مُزلزِلاً بُنيانَها، ورغبتَكَ في الجنون.
بوسعكَ الاستماعُ إلى فيروز
أو الاستماعُ، عالياً، إلى معزوفة طنبوريّة لـِ ابن رمو؛
والشُّروعُ في دبكة كردية صاخبة.
ليلاً، تندلعُ الحربُ،- قلتُ لكَ...
انظرْ إلى النسوة؛ ينشرن على الحبال
غسيلَ أزواجهنّ.
انظرْ..
إذ تستكين الحرب؛ ينظّف الرجال أسلحتهم
محتسين الشاي.
انظرْ إلى الأطفال، ما تركوا من
غُلُفِ الرصاصِ في الشوارع
إلا ولملموها،– هذه هي لعبتهم الجديدة.
وأنا، كذلك، مثل طفل فاشل، ودون أقرانه كلِّهم
ألملمُ غُلُفَ الرصاص!
لفافةً تلو أخرى، أدخّنُ.. ملءَ صدري؛
أصيّرُها حوّاءَ..
يتبدّى الطريقُ لي قليلاً!

***

الشاعر يتهيأ للحرب..
يتأمل أصابعه؛ لا زال محتفظاً بها
يجسّ قلبَهُ؛ لا زال نابضاً بهطول غيمةٍ. لا زال يبكي
لا زال يتفتّحُ والربيعَ.
ويتأملُ عيونَ الأطفال وعيونَ المدينة...

إلى أين سيهرب الشاعرُ!
أنّى تكنِ الواقعةُ.. يكنْ قلبُهُ.
هو شاعرٌ  كلُّ من يموت.
هكذا، دمعةً فدمعةً، يقولُ لقصيدته...

الشاعر يوضّب المدينة في حقيبته
وحزيناً، يغادر إلى القصيدة.
يستريح في منتصف الكلمات
وبإحكام يهيّئ حقيبته.
يخشى الشاعر أن تَسقط منه المدينةُ...

***

متحسّراً
يعانق الأب درّاجة ابنه
كما لو أنها الذكرى الأخيرة
كما لو أنها الرائحة الأخيرة للابن الذي
تلاشى تحت وابل من القذائف.

قبيل أيام
كان، هنا، طفل حلو
يتعلم لتوّه قيادة الدراجة..
كلّما سقط.. سقط قلب الأب.
كلّما تدرّجَ قليلاً.. رفرفَ قلبُ الأبِ...

الأبِ الذي، قَدْرَ أبٍ، يبكي ابنَهُ الذي
لم يتملَّ من درّاجته..
الأبِ الذي لا يتملّى من
درّاجة ابنه...

***

أرجوحةُ الأطفال
لا زالت، في موضعها، معلّقةً إلى قضبانها
وحيدةً، وسط الجدران المتداعية
وسط الخراب
الأرجوحة التي تهتزّ
تحت وقع الانفجارات والقنابل
فتندفعُ منها أرواحُ الأطفال الباسمين

        إلى حضن أبيهم...

الأرجوحة التي
لا زال الأب يَقعي قُبالتَها
موغلاً في التفكير
ومأخوذاً بقلق أبٍ على أطفال أشقياء؛
يُحكِمُ وَثاقَ حبالها..كلَّ صباح.
لا زال ينفضُ الغبارَ عن وسائدها.

 

* شاعر سوري كردي، من مواليد قامشلو 1983. صدر له في الشعر "بارداً.. كالخوف" (2006) و"إلى يسار النعاس" (2010) و"كرصاصة لن تقتلك" (2015). القصائد مختارة من المجموعتين الأخيرتين.


* ترجمة عن الكردية أمير الحسين

المساهمون