02 أكتوبر 2024
وللديمقراطية مساوئها أيضاً
استنفرت سلسلة النكسات التي أصيبت بها قوات النظام السوري، في الأسابيع القليلة الماضية، الحليف "الملتزم" في طهران، فأعرب مسؤولون إيرانيون، بمن فيهم الرئيس حسن روحاني، عن أن بلادهم ستقف مع "الحكومة السورية حتى النهاية"، أما رئيس البرلمان، علي لاريجاني، فقال إن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء محاولات "النيل من سورية"، فيما راح قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، يعد "بمفاجآت تقلب الموازين" في سورية، وتولت الصحف اللبنانية القريبة من طهران تسريب أنباء عن وصول قوات من الحرس الثوري الإيراني إلى ميناء اللاذقية السوري، لشد أزر النظام في مواجهة تقدم المعارضة.
وعلى الرغم من أنه ينبغي التعامل بحذر مع التصريحات الإيرانية والتسريبات المواكبة لها، خصوصاً أن إيران تقف على أبواب مرحلة دقيقة في مفاوضات ملفها النووي، حيث تسعى واشنطن إلى الاستفادة من الضغوط التي تتعرض لها طهران في مواقع نفوذها الإقليمي المختلفة، لدفعها إلى قبول توقيع البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والذي يبدو وكأنه آخر عقبة في طريق التوصل إلى اتفاق نهائي. وينص البروتوكول المشار إليه على السماح لفرق التفتيش التابعة لوكالة الطاقة الذرية الدولية بإجراء زيارات مفاجئة لمواقع المنشآت النووية الإيرانية، ومواقع عسكرية أخرى غير نووية. مع ذلك، لا يجوز التقليل من مدى التزام إيران بدعم حلفائها في سورية، أخذاً بالاعتبار حجم مصالحها واستثماراتها السياسية هناك، كما أنه لا ينبغي، بالمثل، الاستهانة بالسرعة والفاعلية اللتين تتحرك وفقهما السياسة الخارجية الإيرانية، مقارنة بالدول التي توعدها مستشار المرشد للشؤون الدولية، علي أكبر ولايتي، بالرد على تدخلها "السافر" في سورية، وفي مقدمتها تركيا "العثمانية". وهذه النقطة تحديداً هي ما يسترعي الانتباه هنا، حيث يبدو لكل من يراقب سياسات الأطراف الإقليمية الفاعلة في الأزمة السورية أن أداء الديكتاتوريات (حلفاء النظام) كان، منذ بداية الأزمة، أفضل بأشواط من أداء حلفاء المعارضة الديمقراطيين، فالأولى كانت تبدي، على الدوام، قدرة أكبر وفاعلية أكثر في الاستجابة، وبسرعة، للتحديات والمتغيرات السياسية والميدانية التي تفرضها تطورات الأزمة السورية.
طالما كانت مسألة تفوق الديكتاتوريات على الديموقراطيات في حقل السياسة الخارجية والأمنية سبباً لإحباط شديد في أوساط المتحيزين للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، أو المؤمنين بفكر المدرسة النخبوية (الصفوة) في حقل دراسة الدولة والنظم السياسية، فقبل أربعة عقود، وفي ذروة الجدل حول الهزيمة التي منيت بها واشنطن في فيتنام، كتب صمويل هنتنغتون عام 1975 "إن أهم عيوب النظام السياسي الأميركي أنه يفسح المجال أمام ديمقراطية زائدة عن الحد، في القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمن القومي. وأحد أهم أسباب الإخفاقات التي منيت بها السياسة الخارجية الأميركية، في سنوات الحرب الباردة، تمثل في محاولة قوى داخلية عديدة (جماعات الضغط وجماعات المصالح والكونغرس والرأي العام والإعلام وغيرها) التأثير في عملية صنع القرار في ميدان السياسة الخارجية. وكان قد نقل عن الرئيس ريتشارد نيكسون أنه صرخ في وجه مساعديه، في أحد الاجتماعات المهمة لمجلس الأمن القومي حول فيتنام، قائلاً "الصحافة هي العدو"، في إشارة إلى مدى الإحباط الذي كان يشعر به إزاء تغطية وسائل الإعلام الأميركية لسير المعارك في فيتنام، وتناولها حجم الخسائر التي تكبدها الجيش الأميركي هناك، ما ساهم في تأليب الرأي العام على سياسات الإدارة، ودفع باتجاه قرار الانسحاب من المستنقع الفيتنامي. أما جورج كينان، وهو سفير واشنطن في موسكو في السنوات الأولى للحرب الباردة، وصاحب نظرية الاحتواء الشهيرة، فقد عد الممارسة الديمقراطية بمثابة عقبة رئيسة، تقف في وجه تنفيذ سياسة خارجية فعالة. وقد جادل جون غاديس، وهو من أعلام الفكر السياسي الأميركي، من جهته، في دراسة مهمة له نشرها عام 1972، أن نجاح السياسة الخارجية السوفييتية، في السنوت الأولى للحرب الباردة، إنما يعود إلى حقيقة أن "الديكتاتور السوفييتي" ستالين كان متحرراً من أية ضغوط داخلية، فليس هناك كونغرس، ولا رأي عام، ولا إعلام حر، يقيد قدرته على اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة، ومن دون العودة إلى أحد، بعكس الرئيس الأميركي "المسكين" الذي كان لزاماً عليه أن يسترضي جميع هؤلاء، قبل أن يتخذ قراراً في قضية خارجية.
طبعا، كان هذا الكلام يعكس حجم الخيبة في دوائر السياسة والأكاديميا الأميركية إزاء الهزيمة أمام دولة عالمثالثية بحجم فيتنام. وبغض النظر عن صحة القول إن صانع القرار الأميركي كان مقيداً لجهة استخدام قدر أكبر من القوة لإخضاع فيتنام بقيود الرأي العام والإعلام وغيرها، إلا أن فكرة أن الديكتاتوريات غالباً ما تكون أسرع وأجرأ وأكثر فاعلية في اتخاذ القرار في ميدان السياسة الخارجية، مقارنة بالنظم الديمقراطية، لم تعد محل جدل أو خلاف. فالأولى ليست بحاجة إلى مراعاة البرلمانات المنتخبة، أو وسائل الإعلام، أو رغبات الرأي العام، بل يكون الأمر محصوراً بيد قلة قليلة من صناع القرار، يجرون تقييماً سريعاً للتحديات والمخاطر ويتعاملون معها بسرعة.
وإذا عدنا إلى المسألة السورية التي بدأنا بها، نلاحظ الفرق الشاسع بين سرعة الحركة الإيرانية وقدرتها على الاستجابة لمتغيرات الحالة السورية، وضعف السياسة التركية التي تبدو مرتبكة وبطيئة وغير فاعلة. فالأزمة السورية، كما الملف النووي وسائر قضايا السياسة الخارجية والأمنية الإيرانية، يقررها المرشد الأعلى وحده، على الرغم من أن هذا لا يمنع وجود آراء عديدة من حول مؤسسة المرشد تحاول التأثير في قراراتها. أما في تركيا، فإن الحكومة تجد نفسها مقيدة بكل أشكال القيود التي تفرضها الممارسة الديمقراطية، من اضطرارها إلى العودة للبرلمان، في حال أرادت المشاركة في أي عمل عسكري خارجي، مهما كان محدوداً، إلى حاجتها إلى مراعاة الرأي العام الذي تحتاج دعمه المستمر، سواء في الانتخابات العامة، أو في حال رغبت في إجراء تعديلات دستورية لإعادة توزيع السلطات، أو غير ذلك من المسائل التي تتطلب رضىً شعبياً.
مع ذلك، ينبغي القول إن فسح المجال أمام تعدد الآراء وتنافس المصالح ربما يتسبب بإحباط شديد، نتيجة بطء عملية اتخاذ القرار في قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي، وأحياناً، قد يفوت الأوان على اتخاذ قرار في الوقت المناسب، ما يشكل جوهر الانتقادات التي يكيلها أنصار المدرسة المركزية في السياسة الخارجية، باعتبارها نقطة الضعف الأكبر التي تعاني منها الديمقراطيات في مواجهة اللاديمقراطيات في ساحات الصراع الدولي والإقليمي، إلا أن العملية الديمقراطية مع ذلك لا تخلو من جوانب إيجابية، فهي تسمح بخروج قرارات مدروسة، وتقلل من نسبة الأخطاء التي قد يتخذها حفنة من المجانين في قضايا تمس أمن الملايين ومستقبلهم، شرط طبعاً أن لا تستخدم ذريعة لعدم القيام بشيء (Do Nothing)، أو تتحول إلى حالة شلل كامل، في أوقات تتطلب قرارات حاسمة وسريعة.