وقت يتأبى على القتل

30 أكتوبر 2015

عجوز في مأوى للعجزة في هاوت سافوي في فرنسا(3مايو/2015/Getty)

+ الخط -
تؤكد قصص وشواهد كثيرة تميز رجال ونساء بلغوا من العمرعتياً، ومع ذلك تمكنت تلك النماذج المشرقة، وفي مرحلة الشيخوخة تحديداً، من تحقيق إنجازات عظيمة على صعد فنية وأدبية ورياضية وعلمية، ولعل أبرز تلك الحكايات المؤثرة، الجديرة بالالتفات، قصة رائد الفضاء والطيار السابق وعضو مجلس الشيوخ الأميركي، جون غلين، الذي قام في سن السابعة والسبعين بمغامرة الانضمام إلى فريق فضائي، في مهمة استكشافية عبر الفضاء، متحدياً بذلك الفكرة المستقرة في الأذهان عن الصورة البائسة للمسنين، والدور التقليدي المتوقع منهم، حيث نفترض فيهم الانكفاء على هامش الحياة، بانتظار قدوم الموت.
وتستدعي تلك الحالات الصورة النمطية النقيضة في ثقافتنا العربية حول المسنين، حيث يقتصر دورهم على التحسر على شبابٍ لن يعود يوماً، مكتفين بمراقبة الشباب يخوضون غمار التجربة، مستسلمين لتجاهل الجهات الرسمية لخصوصية متطلباتهم في سبيل عيش يصون كرامتهم، ويكفيهم شر الانسحاب القسري المستند إلى نظرية أرذل العمر التي نصل إليها في العالم العربي خصوصاً قبل الأوان بكثير.
وعوضا عن تكريس سياسات وبرامج تقوم على مشاركة هذه الفئة في حركة التطوير بالاستفادة من تراكم الخبرات الطويلة في شتى مناحي الإنتاج، نتواطأ، أحياناً، مع الزمن ضدهم، ونزجّ بهم في عتمة العجز والحضور الشكلي الضروري لغايات الديكور الوجاهي في المناسبات الاجتماعية، حيث يتركز دورهم في لعب دور مرسوم، لا يتعدّى التفوه بعدة جمل تقليدية في حفلات الزفاف والخطوبة، يمنح الكهل عندها حق الكلام باسم العائلة، ويقضي الكهول ما تبقى من أعمارهم في الجلوس الطويل عند عتبة البقال المجاور، والتصدي للوقت الذي يتأبى على القتل، فيظل مثل معظم أفلام السينما المصرية وربما مثل الحياة نفسها: مكرراً متوقعاً بطيئاً ثقيلاً خالياً من الإثارة والتشويق، مهما استهلكوا منه في مراقبة الآخرين، والثرثرة مع العابرين غير المكترثين، وإسداء نصائح لا تخلو من "حشرية".
وفي أحيانٍ كثيرة، ترى ذلك المسن يتفرّغ على نحو كامل لمقارعة الزوجة، وهي في معظم الأحيان، تصغر الزوج بعشر سنين حداً أدنى، وفقا للمعادلة الشائعة التي تروج لفارق السن المثالي، ما يحدث جواً من الغربة وعدم الائتلاف، يترسخ مع مرور السنين. ويبدو شائعاً هذا التنافر بين الأزواج المسنين الذين يقضون أيامهم في مقارعات عبثية مستمرة حول تفاصيل غير مجدية، يتخللها تعبير دائم عن خيبة من جحود الأبناء، واستهتار الأحفاد، والتحسر على أيام الصبا، وهي بالضرورة زاهية مشرقة، وأكثر أهمية من الحاضر الجاحد غير الواعد إلا بضنك العيش.
والحق أنه لا يمكن توجيه اللوم إلى المسنين، لتشبثهم بالحياة، وسعيهم إلى ابتكار أسباب البهجة، لكي يصبح حاضرهم أقل قسوة وجفاء، غير أنه من المفترض أن نلوم أنفسنا، أفراداً ومؤسسات حكومية وأهلية، بسبب التجاهل المفرط لهذه الفئة من البشر الذين قدموا لعائلاتهم ولمجتمعهم الكثير، وما يزالون مؤهلين، من حيث الرغبة والطاقة في الاندماج والمشاركة في عملية الإنتاج والابتكار.
من هنا، يبدو الاحتفال بالأكثرية الشبابية ديموغرافيا غير مبرر، بل مبالغاً فيه أغلب الأحيان، لأنه يتضمن شيئاً من التنصل ونكران الجميل، لجيل سطع في دنيا العطاء، فحرمناه من غروب رشيق، من خلال معادلة تواطأنا معاً على تبنيها. غافلين عن حقيقة شديدة البديهية: نحن، أيضاً، غير معصومين من الشيخوخة، ولسوف يتبعنا جيل أكثر شباباً يعمل، حكماً، على تهميشنا، ودفعنا إلى الصفوف الخلفية، ضيقاً بوجودنا المعرقل، باعتبارنا عبئاً ينبغي الخلاص من ثقل وجوده.
لا يكفي أن تخصص الدول يوماً لتكريم المسنين، فرض كفاية، ولا يكفي أن تتذكّر العائلة الوفاء بالتزاماتها تجاههم في المناسبات المتباعدة، من قبيل القيام بالواجب درءاً للملامة، لأن التكريم الحقيقي والاعتراف اللائق يكمن في تفعيل دور المسنين، واستثمار خبراتهم، وإعادة الاعتبار لدورهم السابق، والإيمان بأنهم قابلون للحياة والعطاء، توقاً إلى الوصول نحو مجتمع أكثر وفاءً وأقل انفصالا عن الجذور.
دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.