وظيفة شاغرة في مزابل التاريخ

17 نوفمبر 2014
باول كوشينسكي/ بولندا
+ الخط -

رسائل ما بعد منتصف الليل في الغالب فارقة، خاصة إن كان رقم هاتفك المحمول جديداً وفي بلد وصلتها قبل يومين فقط. والرسائل الفارقة توقظ المرسل إليه ولو كان رنينها محض نقرتين خفيفتين على إصبع في آخر سلم البيانو.

"يبدو أنك تفكر كثيراً بمزابل التاريخ هذه الأيام، هل ترغب بزيارتها؟"

هذا نصّ الرسالة بالضبط. والرقم المرسِل من تلك التي تكثر فيها الأصفار.

حين تفرط الأشياء في غموضها، تفقد قدرتها على الإدهاش أو إثارة القلق والفزع. ولذلك اكتفيت بالرد برسالة من كلمة واحدة: "نعم".

...

ارتفعت السيارة السوداء طويلاً في مسار يشبه النفق أو الجسر، ربما نفق معلّق. وحال حاجز بيني وبين رؤيتي سائقها أو الحديث معه.

وبعد أمد لم أتمكّن من تقديره، توقفت السيارة ففتحت بابها. خرجتُ ضئيلاً صغيراً أمام واجهة معدنية لا حد لها، لا طول ولا عرض، كأنها بوابة سماوية. حديد صدئ، بل صدأ وحسب.

في النقطة الأقرب إليّ من البوابة، جلس عجوز خلف مكتب حديديّ وفي يده أوراق من أحجام وأشكال مختلفة. بدا واضحاً أنه المقصد الوحيد الممكن هناك. مضيت نحوه لأتبيّن ملامحه، بادرني بالترحاب والابتسام، كأي موظف في مصلحة عامة رتيبة، يكرر فيها العاملون مهامهم منذ عقدين أو أكثر.

وجهه عادي كأي رجل يبلغ الخمسين، بلحية خفيفة كتلك المتروكة دون حلاقة مدة أسبوع، وبملابس من البلاستيك الأزرق وجزمة طويلة تتسع ليضع قدميين أخريين فيها.

- كنا نتوقع زيارتك، أهلاً بك

كانت العبارة مليئة بالالتباس، لماذا يتوقعونها؟ ومن هم تحديداً؟ هل هنالك آخرون ينطق باسمهم هو؟ وهل هي فعلاً زيارة وحسب؟

- شكراً لك!

- أنا أمين المزابل والمسؤول عن كل ما يدخل ويخرج.

الدخول كان مفهوما، أما ما يخرج فهو جديد عليّ! هززت رأسي معلناً رغبتي بالاستماع للمزيد.

- ببساطة، هذه هي مزابل التاريخ التي أرّقتك وفكرت فيها طويلاً. إن أحببت يمكننا الدخول الآن، وإن رغبت يمكن أن أوضح لك كل شيء هنا، ثم ندخل.

أربكني عرضه، هل هنالك دخول لأغراض الزيارة؟ أم أن كل دخول سيحتسبُ دخولاً فعلاً؟ ثم من يريد الدخول إلى مزابل التاريخ!

- شكرا لك، يمكننا الحديث هنا وسنفكر لاحقاً في الدخول.

- كما تريد، ببساطة وحتى لا أطيل عليك. في البداية لم تكن مزابل، كانت مزبلة واحدة، مزبلة التاريخ. كل ما يخلّفه التاريخ وراءه من فضلات، وما يتجاوز من أفكار ومقولات وبشر وحقب ومراحل، كان يتركه لنا. نلتقطه بعد مرور التاريخ ونضعه داخل المزبلة. كان عملنا محدداً وبسيطاً. وكان الأمر صحياً وطبيعياً، فلا بد من مكان يلقي فيه التاريخ فضلاته.

ثم حصل ما لم يكن في حسباننا. بدأ كثيرون يعتقدون أن بإمكانهم إرسال ما يريدون إلينا هنا. بدأت تصلنا طلبات وملفات وبأعداد هائلة، الكل يريد منّا استقبال من يرسلهم إلينا. كانت لديهم مشكلة في فهم طبيعة عملنا وحجمه، ولكننا اضطررنا للاستجابة للتغيرات غير المتوقعة. توسّعنا كأي مصلحة رائجة، أصبحت المزبلة مزابل. وبدأنا في استقبال الطلبات والنظر فيها.

- يعني أنتم تستقبلون كل ما يرسل إليكم؟!

- الطلبات نعم.

- اشرح لي لو تكرمت، لا أفهم!

- نستقبل الطلبات وننظر فيها، والطلبات غالبا ترد على شكل مقالات صحفية وخطابات في وسائل إعلام أو عبارات شاردة في سجالات في الشارع، أو حتى حديث جانبي بين شخصين عن ثالث، وبعضها يرد داخل كتب وأبحاث. هنالك أشكال كثيرة لتلك الطلبات، حين تقول أنت مثلاً "فليذهب فلان إلى مزابل التاريخ"، تصل إلينا إشارة تحمل مضمون طلبك، ونحن مضطرون للتعامل مع الأمر كطلب مقدم منك، وننظر فيه. هذا عملنا الشاغل هذه الأيام.

- اعذرني، أيقتصر عملكم على مراجعة الطلبات والنظر فيها دون اتخاذ إجراء فعليّ؟!

- هنالك إجراءات معقدة يطول الحديث عنها وتحتاج الكثير من الوقت والجهد، ولستُ مخولا بشرحها لك بالتفصيل، يكفي أن أخبرك أنك بحاجة لشهور عدة حتى تمرّ على جميع الأقسام والمراحل والمستويات في الداخل وتفهم كيف نعمل. هل تتوقع أن تحيط بعملنا كله خلال حوار سريع هنا!

- المعذرة، معك كل الحقّ!

- ثم هل تتوقع أن نوافق على كل الطلبات ونستجيب لها؟ دخول مزابل التاريخ أعقد بكثير مما تتصور!

- ولكن يا سيدي، النظر في الملفات والطلبات خلف المكتب، ليس عملاً في مزبلة!

- وما الذي يزعجك في هذا!

- لا شيء، أبداً، لا شيء. ولكنه مفاجئ نوعاً ما.

بدا لي حديث العجوز مضطرباً، وخشيت أن يكون كلامي حمل إساءة ما، فحاولت إنقاذ الموقف ودفع الحرج:

- سيدي، هل تتقاضون أجراً جيداً هنا؟

- بصراحة نعم، لدينا الكثير من العمل والمصلحة واعدة في هذه الفترة. هل تفكر بالعمل معنا؟ لدينا قطاع جديد سيفتتح في الأيام المقبلة إن أحببت؟

- ما هو هذا القطاع الجديد؟

- منذ فترة بدأت تردنا طلبات جديدة دفعتنا لإطلاق قطاعنا الجديد الضخم، كثيرون يطلبون إخراج الفضلات من الداخل، ويصرّون على أنها تنفعهم وتفيدهم.

من جانبنا لا مشكلة لدينا، فما يخرج يترك حيزاً لما سيدخل، والتاريخ لا يتوقف كما تعلم، والفضلات لا تنتهي. ها ما رأيك؟
...

"هل تريد أن تكون أحد أوائل العاملين في قسم تدوير فضلات التاريخ؟"

كان هذا نص الرسالة الثانية.

 

* مقتطف من نص بنفس العنوان ينشر لاحقاً

المساهمون