وداعاً ميلانو

30 ابريل 2015
+ الخط -

لو اجتمعت كل نكت العالم قد تضحكك، ولكنها لن تسعدك مثلما تفعل أنت بوجودك في لحظة رضى واندماج وألفة بمكان تفهمه فيحبك. إذا كان الكوكب منزل البشر، فإيطاليا هي أدفأ غرفة في هذا المنزل حتى مع المطر.. أنا الآن في آخر ليلة لي في ميلانو، وحزين بلا سبب كالخارج من بيت ألفه. وتخيلت للحظة ماذا سيخسر العالم لو لم تكن هناك إيطاليا في هذا الكوكب؟!

دفء أم فن أم شهية، وأين سيذهب هذا السيل من الفرح لو لم تكن، هل سنستسلم لبرود وجه الألمان مثلاً! في ميلانو ستكون في بيت كبير على شكل مدينة، إذا كنت لا تصدقني استيقظ باكراً معهم وراقب حركة الشارع. هذا الذي يصرخ من شباك سيارته الحمراء الصغيرة على المنعطف يرسل قبلة في الهواء عند المنعطف الآخر. وعيون تلك العاملة في المطعم متحفزة لخدمة الزبائن بشغف واضح جداً أنها لا تحب عملها فقط، بل وتحب بصدق أن تقدم لك إخلاصها بلا مقابل.

شوارعهم غرف معيشة وبعض المنعطفات مطابخ، ارمي نفسك حيث شئت وسمي الله وكل. فجنبات الطرق كلها قد زارتها الشمس وتركت عليها أثراً. لم أجد وجهاً غريباً للحظة، وحيث ما ضعت تبدو لي الطرق الضيقة مألوفة جداً والناس متأنقون ليل صباح. بلا أي نشاز، فاللياقة متناسقة مع لون عصاة ابن التسعين، والمبتسم لي الآن تحت ظل قبعته المتناسقة مع لون حذائه.

من الشرفات تربي الأمهات أبناءهن صراخاً أحياناً ورفعاً للحواجب أو تهديدا بالأصابع أحيانا أخرى.. كل سكان هذه المدينة أولاد هذا المنزل الكبير، بينهم روابط حميمة لا تراها، أو قد لا تفهمها بعد أن ملأت رأسك اعتقاداً أن الايطالي رجل شهوات ومتع كما تقول لنا بعض قنواتهم. والويل لك إن ظهرت كغريب يفتح خارطته وسط الشارع لن يكلمك أحد بل سيخافونك أو يتجاهلونك أو يدلونك على أقرب نصاب ليتولى جيبك. أو ارحل إلى روما واستسلم للسياحة.

فهلوة الإيطالي تشبه فهلوة المصري، إلا أنها محدودة لا تتجاوز الشارع، ولا تدخل في الجد، فهناك مساحة للضحك واللعب في كل تفاصيل الحياة، وبعدها تنزل مطرقة القانون فتحكم وتفصل ولا داع لفتح أي مقارنة مع بلادنا "المتفهلوة" حتى في الدين.

بقيت أراقب ذلك الطفل الممسك بسيارتين صغيرتين يشقلبهما في الهواء مطلقا خياله بلا حدود مع بعض أصوات أزعجت أباه ثم كل ركاب الباص، وكيف انتهى به الحال مرفوعاً من أذنه، حتى اعتقدت أن الأم عربية.

ما بال الحَمَام هنا وقح جداً، قد يشاركك ما تحمل من أكل في يدك، أو يضربك بجناحه إن صادف وجهك طريقه، ولم يعلم إني أحبه محشياً بالأرز مع الملوخية!

أنت الضيف القريب لهم عرقاً وشكلاً والبعيد عنهم حضارة ولغة وديناً، فالشكل واحد، إلا أن عيون العربي المنكسرة أو الممتلئة غضباً، أو الملتفتة كثيراً هي النشاز البارز الذي بإمكانك رصده بسهولة وسط الوجوه المتشابهة، احفظ أمنك وجيبك فالبلاد تعج بأمهر السارقين في العالم، لا أمل لنا إلا بأن نعمر بيوتنا وأراضينا وبلادنا ونرد لهم الدفء بدفء، هل فهمت يا مهاجر لماذا ينزعجون من دخولك بحذائك إلى وسط صالون البلد.

(فلسطين)

المساهمون