- غالباً لا يرغب أحد بالتحدث عن داعش.
- هم غير موجودين بعد، وغير مرحَّب بعودتهم. معظمهم ليسوا سوريين، هل يمكننا التحدث عن المشاكل الواقعية الآن؟ سأل المحامي رامي نجار بنبرة خطابية عندما لاحظ أن النقاش بين الأصدقاء قد انحرف عن مجراه.
- التوتر سائد دائمًا في هذه المدينة، نصفنا شيوعيون ونصفنا الآخر إخوان مسلمون، ومن حسن الحظ أن هناك من لا يزال على قيد الحياة بعد التصفيات التي قام بها النظام في الثمانينيات.
رامي أنيق دائماً، برباط عنقه وسترته الجلدية البنية المهترئة، يحسب نفسه على الشيوعيين، ويشعر بخيبة كبيرة من اليسار الأوروبي والعالمي.
- أنا آسف ولا تأخذي كلامي هذا بشكل شخصي، ولكني فقدت احترامي لكم.
يقول رامي بأن الثورة تعني حق الشخص في تكوين حياته، وأن يكون شريكاً في قرار تشكيل مجتمعه، وأن يتقاسم هذا الحق مع الآخرين وبالشروط نفسها.
- تعني أيضاً وبالتأكيد، العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الموارد، ولكن يا للجحيم، نحن الآن في حالة حرب، ومشغولون بالمطالبة بحقنا في البقاء على قيد الحياة.
نور بلكيش زوجة رامي، تقاطعه قائلة:
- الأكثر إزعاجاً هو ادعاءات اليسار العالمي بأننا نعمل لمصلحة الإمبريالية. طيب، ادعمونا لنتجنب هذا. هم يركزون على اللاعبين الكبار إلى حدّ العمى عن مشاهدتنا نحن الذين بدأنا كل شيء، وهم لا يروننا إلا عند نقدنا فقط، إذا أردتُ تسمية هذا الشيء فسأسميه إمبريالية.
رامي يومئ برأسه موافقاً ويقول:
- الحرب الباردة انتهت، نرحب بكم في عام 2014.
وليد يضع يده على ذراع صديقه مطمئناً، ويعترض قائلاً إن هناك الآن ما لا يقل عن أربعة مجالس محلية، يدّعون أنهم يمثلون سكان سراقب، وإنه من غير المستغرب في هذه الظروف أن الحلفاء الأجانب، سواء كانوا ناشطين أو حكومات، لا يعرفون مع من يتواصلون.
- بودي تزويدهم برقم موبايلي، ولكنه لا يعمل. هل يكفي السكايب؟. يكمل وليد ويضحك.
- لنكن جديين، يقاطعه رامي، لا يهم من يحصل على المساعدة، الأهم هو أن تأتي.
سهير غانم معارضة ناشطة في حقل التمريض ومنظِّمة للعمل النسائي، لا توافقه الرأي. سهير ترى أن المساعدات المشروطة من الخارج جنباً إلى جنب مع دعاية النظام عن الطائفية هما على وجه التحديد ما استحضر الحرب الأهلية وعمل ضد أهداف الثورة.
- إن بقينا وحدنا فلا أمل لنا، لهذا طلبنا المساعدة. ربما كنا ساذجين بعض الشيء، مغرمين بثورتنا لدرجة أننا لم نعِ أن الآخرين سوف يسيئون لها. الآن وبعد أن وصلنا الى ما وصلنا اليه، ربما كان من الأفضل لو أن الجميع تجاهلنا... وأنا أعلم ما يقوله أخي والآخرون من أنه ينبغي علينا الإطاحة بالأسد الآن، وسنعمل على ما تبقى فيما بعد، ولكن في الحقيقة أنا أشك بصحة هذا الكلام، لأنه حصل الكثير من الضرر. بالنسبة لي فإن الثورة ضاعت. ولكني ما زلت أؤمن بشعبي... بالإضافة إلى أن المرء لا يترك بلداً هو من أشعل النار فيها.
سهير تعتقد بأن السبب الأول لعدم التضامن مع المعارضة هو تخوف القوى العظمى على إسرائيل في حال تغير الأسد. النظام الجديد لن يكون مشلولاً تجاه إسرائيل مثلما كان حزب البعث، بغض النظر عن التصريحات القوية التي أطلقها الأسد على مر السنين.
- من الواضح أنهم يريدون بسط سيطرتهم علينا، يريدون التأكد من أننا سنصبح حكومة موالية للغرب. ولكن ألا تفهمين؟ المعارضة في بلادكم لا تثق بنا، وهذا هو الأكثر إيلاماً لنا، وعلى ما أعتقد فإن سبب عدم الثقة هذا هو كوننا مسلمين، أي غير مؤهلين للديمقراطية، قالت سهير ذلك وهي تتنهد بمرارة.
طارق خوري صديق سهير المعتقل الآن*، التقيته للمرة الأولى في أنطاكيا التركية. يومها خدعني بقوله إننا قبل أن نتسلل عبر الحدود إلى سورية، سوف نقوم بعمل ضروري من أجل الثورة، ليتضح لي فيما بعد أنه يريد شراء هدية لخطيبته. قضينا أربع ساعات في تمشيط المدينة القديمة بحثاً عن كنزة لخطيبته بلون أحمر محدد الدرجة. في طريق السفر بدأ طارق بالشتم على تهريب النفط الذي يجري بشكل مكشوف على الحدود التركية السورية، آلاف الأنابيب الملتوية في خنادق وعلى رؤوس الأشجار لتنتهي إلى صهاريج شحن. لم نقم بالثورة من أجل أن نصبح أغنياء ومن خلال سرقة شعبنا، كان لدينا ما يكفي من مثل هذه الممارسات سابقاً.
من الصعوبة معرفة حقيقة مزاج طارق. ذات يوم ألقى نفسه على "الطرّاحات"* في بيت وليد، وحدّق بي قائلاً: إذا قال لك أحد ما بأن الثورة قائمة فلا تصدقيه، الثورة ماتت، ماتت.
في يوم آخر كان متألِّقاً ومفعماً بالتفاؤل والثقة بالمستقبل، وذلك بسبب نقاش عام مفتوح في البلدية أو أخبار جيدة في قناة العربية. هذه اللحظات من الشكوك الدرامية التي يمر بها طارق جعلته أحد الأشخاص الذين أثق بهم.
آخر مرة التقيت بطارق كان متزوجاً حديثاً، سعيداً ويبدو كعاشق جديد بالرغم من عشر سنوات من العلاقة. زوجته من حلب، أي على بعد 50 كيلومتراً عنه فقط، ولكنه عالم مختلف تماماً كونه تحت سيطرة النظام. لم تكن زوجته معتادة على القصف، ولهذا كانت ترمي نفسها خلف ظهره كلما اقتربت طائرة حربية. رفضت أن تنتقل للعيش معه بشكل دائم، واستمر هو في السفر ذهاباً وإياباً، من الثورة إلى الزوجة، أي من حب إلى حب آخر. قبل شهرين تم اعتقال طارق عند حاجز داخل حلب. بقينا على الأمل. طارق مع عقله النقدي يقوم الآن بتأليف عمل عظيم، وسيتم تهريب هذا العمل إلى خارج السجن على ورق السجائر. آخر ما سمعناه عنه من ابنة عمه جميلة خوري هو أنه تم نقله إلى دمشق. وتقول إنها لم تعد تأمل بأنه على قيد الحياة، بل تأمل بأنه مات بسرعة.
هذا أفضل من أن يعلَّق على خطاف الذبائح في معتقَلٍ ما.
* مقتطف من معايشات الطبيبة السويدية "لينا ميرتز" في سراقب.
* بعد كتابة هذا المقال أُفرِج عن طارق خوري وهو الآن فخور بأنه أصبح أباً.
* الطراحات كلمة من اللهجة الدارجة وتعني الوسائد الكبيرة المطروحة على الأرض.
الترجمة عن السويدية ناديا دريعي
- هم غير موجودين بعد، وغير مرحَّب بعودتهم. معظمهم ليسوا سوريين، هل يمكننا التحدث عن المشاكل الواقعية الآن؟ سأل المحامي رامي نجار بنبرة خطابية عندما لاحظ أن النقاش بين الأصدقاء قد انحرف عن مجراه.
- التوتر سائد دائمًا في هذه المدينة، نصفنا شيوعيون ونصفنا الآخر إخوان مسلمون، ومن حسن الحظ أن هناك من لا يزال على قيد الحياة بعد التصفيات التي قام بها النظام في الثمانينيات.
رامي أنيق دائماً، برباط عنقه وسترته الجلدية البنية المهترئة، يحسب نفسه على الشيوعيين، ويشعر بخيبة كبيرة من اليسار الأوروبي والعالمي.
- أنا آسف ولا تأخذي كلامي هذا بشكل شخصي، ولكني فقدت احترامي لكم.
يقول رامي بأن الثورة تعني حق الشخص في تكوين حياته، وأن يكون شريكاً في قرار تشكيل مجتمعه، وأن يتقاسم هذا الحق مع الآخرين وبالشروط نفسها.
- تعني أيضاً وبالتأكيد، العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الموارد، ولكن يا للجحيم، نحن الآن في حالة حرب، ومشغولون بالمطالبة بحقنا في البقاء على قيد الحياة.
نور بلكيش زوجة رامي، تقاطعه قائلة:
- الأكثر إزعاجاً هو ادعاءات اليسار العالمي بأننا نعمل لمصلحة الإمبريالية. طيب، ادعمونا لنتجنب هذا. هم يركزون على اللاعبين الكبار إلى حدّ العمى عن مشاهدتنا نحن الذين بدأنا كل شيء، وهم لا يروننا إلا عند نقدنا فقط، إذا أردتُ تسمية هذا الشيء فسأسميه إمبريالية.
رامي يومئ برأسه موافقاً ويقول:
- الحرب الباردة انتهت، نرحب بكم في عام 2014.
وليد يضع يده على ذراع صديقه مطمئناً، ويعترض قائلاً إن هناك الآن ما لا يقل عن أربعة مجالس محلية، يدّعون أنهم يمثلون سكان سراقب، وإنه من غير المستغرب في هذه الظروف أن الحلفاء الأجانب، سواء كانوا ناشطين أو حكومات، لا يعرفون مع من يتواصلون.
- بودي تزويدهم برقم موبايلي، ولكنه لا يعمل. هل يكفي السكايب؟. يكمل وليد ويضحك.
- لنكن جديين، يقاطعه رامي، لا يهم من يحصل على المساعدة، الأهم هو أن تأتي.
سهير غانم معارضة ناشطة في حقل التمريض ومنظِّمة للعمل النسائي، لا توافقه الرأي. سهير ترى أن المساعدات المشروطة من الخارج جنباً إلى جنب مع دعاية النظام عن الطائفية هما على وجه التحديد ما استحضر الحرب الأهلية وعمل ضد أهداف الثورة.
- إن بقينا وحدنا فلا أمل لنا، لهذا طلبنا المساعدة. ربما كنا ساذجين بعض الشيء، مغرمين بثورتنا لدرجة أننا لم نعِ أن الآخرين سوف يسيئون لها. الآن وبعد أن وصلنا الى ما وصلنا اليه، ربما كان من الأفضل لو أن الجميع تجاهلنا... وأنا أعلم ما يقوله أخي والآخرون من أنه ينبغي علينا الإطاحة بالأسد الآن، وسنعمل على ما تبقى فيما بعد، ولكن في الحقيقة أنا أشك بصحة هذا الكلام، لأنه حصل الكثير من الضرر. بالنسبة لي فإن الثورة ضاعت. ولكني ما زلت أؤمن بشعبي... بالإضافة إلى أن المرء لا يترك بلداً هو من أشعل النار فيها.
سهير تعتقد بأن السبب الأول لعدم التضامن مع المعارضة هو تخوف القوى العظمى على إسرائيل في حال تغير الأسد. النظام الجديد لن يكون مشلولاً تجاه إسرائيل مثلما كان حزب البعث، بغض النظر عن التصريحات القوية التي أطلقها الأسد على مر السنين.
- من الواضح أنهم يريدون بسط سيطرتهم علينا، يريدون التأكد من أننا سنصبح حكومة موالية للغرب. ولكن ألا تفهمين؟ المعارضة في بلادكم لا تثق بنا، وهذا هو الأكثر إيلاماً لنا، وعلى ما أعتقد فإن سبب عدم الثقة هذا هو كوننا مسلمين، أي غير مؤهلين للديمقراطية، قالت سهير ذلك وهي تتنهد بمرارة.
طارق خوري صديق سهير المعتقل الآن*، التقيته للمرة الأولى في أنطاكيا التركية. يومها خدعني بقوله إننا قبل أن نتسلل عبر الحدود إلى سورية، سوف نقوم بعمل ضروري من أجل الثورة، ليتضح لي فيما بعد أنه يريد شراء هدية لخطيبته. قضينا أربع ساعات في تمشيط المدينة القديمة بحثاً عن كنزة لخطيبته بلون أحمر محدد الدرجة. في طريق السفر بدأ طارق بالشتم على تهريب النفط الذي يجري بشكل مكشوف على الحدود التركية السورية، آلاف الأنابيب الملتوية في خنادق وعلى رؤوس الأشجار لتنتهي إلى صهاريج شحن. لم نقم بالثورة من أجل أن نصبح أغنياء ومن خلال سرقة شعبنا، كان لدينا ما يكفي من مثل هذه الممارسات سابقاً.
من الصعوبة معرفة حقيقة مزاج طارق. ذات يوم ألقى نفسه على "الطرّاحات"* في بيت وليد، وحدّق بي قائلاً: إذا قال لك أحد ما بأن الثورة قائمة فلا تصدقيه، الثورة ماتت، ماتت.
في يوم آخر كان متألِّقاً ومفعماً بالتفاؤل والثقة بالمستقبل، وذلك بسبب نقاش عام مفتوح في البلدية أو أخبار جيدة في قناة العربية. هذه اللحظات من الشكوك الدرامية التي يمر بها طارق جعلته أحد الأشخاص الذين أثق بهم.
آخر مرة التقيت بطارق كان متزوجاً حديثاً، سعيداً ويبدو كعاشق جديد بالرغم من عشر سنوات من العلاقة. زوجته من حلب، أي على بعد 50 كيلومتراً عنه فقط، ولكنه عالم مختلف تماماً كونه تحت سيطرة النظام. لم تكن زوجته معتادة على القصف، ولهذا كانت ترمي نفسها خلف ظهره كلما اقتربت طائرة حربية. رفضت أن تنتقل للعيش معه بشكل دائم، واستمر هو في السفر ذهاباً وإياباً، من الثورة إلى الزوجة، أي من حب إلى حب آخر. قبل شهرين تم اعتقال طارق عند حاجز داخل حلب. بقينا على الأمل. طارق مع عقله النقدي يقوم الآن بتأليف عمل عظيم، وسيتم تهريب هذا العمل إلى خارج السجن على ورق السجائر. آخر ما سمعناه عنه من ابنة عمه جميلة خوري هو أنه تم نقله إلى دمشق. وتقول إنها لم تعد تأمل بأنه على قيد الحياة، بل تأمل بأنه مات بسرعة.
هذا أفضل من أن يعلَّق على خطاف الذبائح في معتقَلٍ ما.
* مقتطف من معايشات الطبيبة السويدية "لينا ميرتز" في سراقب.
* بعد كتابة هذا المقال أُفرِج عن طارق خوري وهو الآن فخور بأنه أصبح أباً.
* الطراحات كلمة من اللهجة الدارجة وتعني الوسائد الكبيرة المطروحة على الأرض.
الترجمة عن السويدية ناديا دريعي