والد الأستاذ

12 يوليو 2017
أسعد عرابي/ سورية
+ الخط -
قال مختار قرية "المرتاحة" التي ينحدر منها والد الأستاذ وهو يعدّل من وضع عقاله فوق رأسه ويستعدّ للخروج من دار زوجته الثانية:

- كلب وفطس، لو كانت الرحمة من كيسي ما خلّيتها تنزل عليه.

ركب سيارته البيك آب، وفي الطريق التقى برئيس البلدية فأردفه إلى جانبه، ولما سأله عن حقيقة الخبر أجاب رئيس البلدية: صحيح، لقد توفي والد الأستاذ، يقولون إنه سلّم أمانته ليلة البارحة قبل صلاة الفجر. ثم غمغم: يمهل ولا يهمل...

في مجلس العزاء، لو رميت بكمشة تراب لما وقعت على الأرض، الرؤوس مطرقة والوجوه كئيبة متجهمة، والناس بين عابث بمسبحة أو متمتم بفاتحة.

- رحم الله أباك يا أستاذ، لقد كان أباً لنا جميعاً. ما أنسى لا أنسى كيف دفع عني منذ ثلاثين سنة أجرة السفر إلى المدينة. لقد كان كريماً بل كان آية في الكرم خاصة في رمضان، وكلّ الناس تعرف ذلك.

علّق آخر:
- لقد كان رحمه الله واحداً من المحسنين المجهولين الذين كانوا يجودون على فقراء الناحية بعطاياهم، ولم نكن نعرفهم لأنهم كانوا يقرضون الله ولا يريدون الرضا والشهرة من العباد... أليس كذلك بالله عليكم؟!

هزّ جميع الحاضرين رؤوسهم بالموافقة، بينما تنحنح الأستاذ بوقار واكتفى بابتسامة خفيفة.

- ومن كان يمكنه أن يتكلّم عن الرجولة والشجاعة في حضور المرحوم والدكم المبجل؟! أقسم بالله يا أستاذ أن المرحوم والدكم كان أشجع رجل رأيته في حياتي، وللمرّة اﻷولى سأفشي هذا السر: لقد صرع المرحوم أمام عيني هاتين ثلاثة جنود وأربعة من بغال الخدمة في معسكر الفرنساوي أيام الاحتلال بخمس رصاصات فقط ... لقد كان رحمه الله من المحاربين القدماء ومعروفاً بأنه صاحب نيشان... ضربته والقبر.

سعل المختار كإشارة إلى أنه يودّ الحديث فأنصت الجميع:

- يا جماعة، من السنة أن نذكر محاسن موتانا فكيف إذا كان فقيدنا كله محاسن، لقد كان رحمه الله أحكم رجل قابلته في حياتي ... كلماته كلها كانت حكم وحركاته كلها موزونة ومدروسة، كان رجلاً وقوراً بمعنى الكلمة، تذكرون جميعاً أفضال حكمته علينا، من أوّل من أدخل الراديو إلى بيته؟ من أعاد زوجة عبد الله إلى زوجها بعد أن أقسم عليها بالطلاق ثلاث مرات؟! من أشار علينا بالخروج إلى صلاة الاستسقاء في سنوات القحط لا أعادها الله؟ من صاحب المقولة الشهيرة "الرجال ليست بشواربها"؟!

عدّل الأستاذ ربطة عنقه وأراد أن ينهض لاستقبال بعض المعزين الجدد، فلمس المختار طرف ركبته برفق:

- أقسمت عليك يا أستاذ ألا تقوم من مكانك، ألا يكفيك ما أنت فيه من حزن.

ثم همس في أذن أحدهم أن يوقف ثلاثة شباب من القبضايات على باب الخيمة لاستقبال الضيوف.

في اليوم الثاني، تضاعف عدد المعزّين فتبرع مدير المصرف الزراعي في المنطقة بنصب خيمة عزاء ثالثة على حسابه الخاص.

في اليوم الثالث، وقع الخلاف بين أهالي الناحية من الوجهاء حول من يجب أن يتكفّل بمصاريف الذبح وتقديم القرابين عن روح المرحوم.

وبعد الانتهاء من "الختمة"، وقف الأستاذ واستأذن من الحاضرين بعد أن توجه إليهم بكلمة مقتضبة شكرهم فيها على شعورهم الوطني العالي وروح التضامن التي أظهروها بهذه المناسبة الحزينة.

لم تكن السيارة قد غابت عن الأنظار بعد، حين لوّح رئيس البلدية بيده إشارة بذيئة، بينما عضّ المختار على شفته السفلى وغمغم بغيظ: يلعن أبوك.

* كاتب سوري كردي

دلالات
المساهمون