هل دخلت الثورات العربية طور الكمون؟

21 فبراير 2019
+ الخط -
أنهت الحالة الثورية العربية عامها الثامن في مطالع سنة 2019، وبرزت في المشهد السياسي العربي علاماتٌ تشير إلى بروز مظاهر تخطت ما عهدناه فيها في الأشهر والسنوات التي أعقبتها، حيث ترتَّبت عنها معطياتٌ ونتائج لا يمكن إنكار الأدوار السياسية التي أصبحت مرتبطةً بها، في تحولات ومآزق كثيرة عرفها المجال السياسي العربي. وبناء عليه، لا يمكن القول اليوم إن الحالة الثورية العربية توقفت، ولعل الموقف الأقرب إلى وصف ما نحن بصدده أن تكون قد دخلت طوراً من أطوار الكُمُون.
يُستعان هنا في الاقتراب من راهن الحالة الثورية العربية بثلاث مفردات، الكمون، التراجع ثم الاشتعال والتجدّد. وترتبط المتغيرات الجارية في مجتمعات الثورة وباقي المجتمعات العربية، في أغلبها، ببعض من دلالات هذه المفردات، حيث تعرف هذه الحالة صورا من التراجع عن اندفاعة الفعل الثوري، كما تبلور في أشهرها الأولى، وحيث يَلِج بعضُها الآخر طوراً من الكمون، القابل للاشتعال مجدّداً، بل وللاستفحال أيضا.
تساعد المفردات المذكورة على إنجاز معاينةٍ تاريخيةٍ لمختلف المخاضات والديناميات وردود الفعل المتعدِّدة والمتناقضة التي فجَّرتها هذه الحالة في المجتمعات العربية. وهي تجنّبنا المواقف القطعية الجاهزة من الثورة وما بعدها، لتقرّبنا أكثر من جدليات الصراع السياسي المتواصلة بأشكال ولغات متعدّدة في أغلب بلدان الثورات، بما فيها التي يتواصل فيها الصراع، بِتَوَسُّط معارك جديدة، واختراقات صانعة توجُّهاتٍ لم تكن في الحسبان.. وبما فيها أيضاً البلدان التي اشتعلت فيها أخيرا مظاهراتٌ تعلن بدايةً أخرى للحراك الثوري، كما هو عليه الحال اليوم في السودان.
يُمكن أن يحصل اتفاقٌ اليوم بين متابعي مسارات الثورة العربية، على سيادة نوعٍ من التراجع عن شعارات الحالة الثورية وأهدافها، بل هناك من يعتبر أن التراجع حصل يوم وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة التنفيذية، في البلدان التي بادرت بالحراك الثوري. كما أن هناك من يؤرخ للتراجع بمشروع الثورات المضادّة، وقد شملت أغلب الأقطار العربية، من أجل خطواتٍ استباقيةٍ تُوقف علامات المَدِّ الثوري وشراراته.
اتخذ تراجع الحالة الثورية العربية في الأشهر الأخيرة مظاهر أكثر حِدَّةً، مقارنةً مع سنواتها 
الأولى، فقد ارتفعت كُلْفَة الصراع الدولي والإقليمي في المشرق العربي، وتصاعدت إلى جانبها ضرباتُ الثورات المضادَّة، حيث تعمل اليوم قوى دولية وإقليمية كثيرة بتنسيق وتعاون مع جيوب الأنظمة العربية السائدة، على بناء ما يساهم في تغييب قيم الثورة وشعارات التغيير. وقد تعزّزت خطوات هذه الأنظمة بضَعْف القِوى المعارِضة وتشرذمها، وعدم قدرتها في بعض البلدان على مواجهة بقايا أنظمة الاستبداد والفساد، المدعومة، كما أشير، من القوى الدولية التي تتسابق اليوم لحماية ما تَبَقَّى منها، مستهدفةً، أولاً وقبل كل شيء، حماية مصالحها وحماية من يقوم بحراسة هذه المصالح.
تَولَّد عن صور الصراع الذي انخرطت فيه بلدان الثورات تَحَوُّلُ بلدانٍ عربيةٍ كثيرةٍ إلى مستنقعاتٍ بمياه آسِنَة وآفاق مسدودة، من دون إغفال الإشارة إلى المآسي العديدة المتولِّدة عن كل ما سبق، أعداد القتلى والجرحى والمُهَجَّرِين والهاربين، وكذا صور الدَّمار المادي والنفسي الذي لَحِق العمارة والإنسان في هذه المجتمعات.
ليس مراد هذه السطور الاقتراب من الحالة الثورية العربية بعيونٍ تكتفي بمعاينة صور التراجع القائمة، وصور الخراب التي لحقت بعض هذه المجتمعات التي انكسر فيها المَدّ الثوري، في سياق تطوُّر آليات الصراع الناشئة بين الأنظمة السياسية المستبدَّة والمعارضات المرتَبِكَة، والمخترَقَة في الآن نفسه. وإذا كنا نُسَلِّم بأن طريق الثورات في التاريخ ليس واحداً، وأن ثورات الربيع العربي بينها، بما لها وما عليها، ليست واحدةً أيضاً، وذلك على الرغم من تشابه الشعارات وتقارُب الأمكنة، ووحدة النمط المجتمعي والثقافي المؤطِّر لوجودها التاريخي.
في ضوء ما سبق، الحالة الثورية العربية متواصلةٌ اليوم مشروعا قابلا للاستئناف في مختلف المجتمعات العربية، بحكم أنه لم ترتفع من أغلبها المبرّرات التي دفعت إلى حصولها، وذلك بموازاةٍ مع مختلف أشكال التراجع التي أشير إليها، والمتمثِّلة في حديث بعضهم أخيرا عن نهاية الثورة السورية، وتخوف آخرين من كل ما جرى ويجري في ليبيا واليمن.
تتيح تحوُّلات كثيرة تَبْرُز بين حين وآخر، في قلب متغيِّرات الواقع العربي، تأكيد أن الحالة الثورية العربية، على الرغم من كل ما لحقها من أعطاب، ودخول بعضها في كُمُون، ما تزال قادرةً على الاشتعال مجدّداً بطريقة أخرى. وما يجري اليوم في السودان من حَرَاك اجتماعي وسياسي، يُطَالِبُ بإسقاط نظامها في الحكم بعد ثلاثين سنة من الاستبداد، ومن تغييب آليات الإصلاح الديمقراطي، مثالٌ حيٌّ على إمكانية عودة الفعل الثوري إلى واجهة الأحداث في مجتمعاتنا.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".