06 نوفمبر 2024
هلال عسكري جديد؟
مع "استجابة" الجيش السوداني لمطالب المحتجين بالانحياز لهم، والمساعدة في التخلص من نظام الرئيس عمر البشير، يكون العسكر قد عادوا إلى السلطة (لم يغادروها أصلاً في بعض الدول)، أو أخذوا يتحكّمون بها من وراء حجاب، في كل من السودان ومصر والجزائر، فيما يحاول اللواء المتقاعد خليفة حفتر أن يقبض عليها في ليبيا. وهذا يعني أننا بتنا أمام "هلال" حكم عسكري يمتد من شمال شرق أفريقيا إلى شمالها الغربي.
طبعاً هذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها هذا الهلال، لكن ظروف اكتماله ومدته تبدو هذه المرة مختلفة، ففي المرة الأولى استغرق تشكله نحو عقدين بين إطاحة الجيش المصري الملكية في 1952، وانقلاب العقيد معمر القذافي على الملك إدريس السنوسي في ليبيا عام 1969. وبينهما انقلاب اللواء إبراهيم عبود في السودان عام 1958، وانقلاب العقيد هواري بومدين في الجزائر عام 1965. في تلك الفترة، نجح العسكر في الوصول إلى السلطة، والتشبث بها في ظروفٍ دولية مختلفة أيضاً، كان أبرز ملامحها صعود الولايات المتحدة قوة عالمية، وسعيها إلى الحلول محل القوى الاستعمارية الأوروبية من جهة، واندلاع الحرب الباردة واشتداد التنافس بينها وبين الاتحاد السوفييتي من جهة ثانية، فمع أفول نجم دول أوروبا الاستعمارية، سعت واشنطن إلى تأكيد حضورها في المنطقة العربية، ومنع حصول فراغ يملأه الاتحاد السوفييتي عبر إحداث تغيير اجتماعي – سياسي عميق فيها. وفي حين اعتمد الأوروبيون على طبقة الأعيان، من بقايا الأجهزة والمؤسسات العثمانية، للحكم والتواصل مع المجتمعات المحلية، رأت واشنطن في المؤسسة العسكرية العربية أداةً للتغيير والسيطرة. وكانت المؤسسة العسكرية العربية بدأت تستوعب، خلال هذه الفترة، أبناء الطبقات الفقيرة والمهمشة التوّاقين إلى التغيير والتخلص من حكم الأرستقراطية المرتبطة بالاستعمار. وقد دشّن الأميركيون تدخلهم في المنطقة العربية بترتيب انقلاب حسني الزعيم في سورية، كما كانوا على تواصلٍ مع الضباط الأحرار في مصر، لكن السقوط السريع للزعيم في سورية جعل واشنطن أكثر حذراً في التعامل مع المصريين.
اعتماد الأميركيين على المؤسسات العسكرية العربية التي ظلت غربية الهوى بحكم التدريب، والنشأة والتسليح، كان يعني، ببساطةٍ، أنهم غير مهتمين بتعزيز الديموقراطية العربية الوليدة، بل شجعوا الجيش للانقلاب عليها. وكما تشير الوثائق التاريخية المرتبطة بتلك الفترة، كان مسؤولو وزارة الخارجية الأميركية ميالين إلى الأخذ بنظريات التحديث (Modernization Theories) التي هيمنت أدبياتها على المؤسسات الأكاديمية الغربية. وبحسب هذه النظريات وتطبيقاتها في المنطقة العربية، كانت بنية المجتمعات التقليدية تواجه انهياراً حتمياً في وجه مد حداثيٍّ أدواتُه نظم الاتصال، التكنولوجيا، التعليم، والمعلومات. ولمّا كانت أميركا رائدةً في هذه المجالات، فقد كان ذلك يعني تعزيزاً لنفوذها الفكري، الثقافي، الاقتصادي والسياسي. والملاحظ أن نظريات الحداثة ذات المنشأ الأميركي أسقطت عن عمد الديموقراطية من معادلاتها، فيما يخص المنطقة العربية تحديداً، على أساس أن المراحل الانتقالية تتطلّب قياداتٍ قويةً قادرةً على فرض التغيير من الأعلى (نموذج أتاتورك) في بيئاتٍ ثقافيةٍ معاديةٍ للغرب وقيمه الثقافية والحضارية.
وعلى الرغم من تدهور العلاقة مع المؤسسة العسكرية العربية التي اخترقها السلاح السوفييتي في سورية ثم في مصر، بعد أن رفض الغرب تسليحها لمواجهة التهديد الإسرائيلي، ظلت الولايات المتحدة تحاول كسبها في إطار الحرب الباردة إلى أن فقدت الأمل نهائيا بدءاً من عام 1957. خلال تلك الفترة، أخذت واشنطن تميل أكثر إلى اعتماد فكرة التحالف مع القوى الإسلامية والمحافظة لمواجهة المد القومي العربي الذي يقوده العسكر، وبدأ يأخذ شكلاً أكثر تعارضاً مع المصالح الأميركية.
في الحالة الراهنة، تبدو الاستراتيجية مقلوبة، والسياق الإقليمي والدولي مختلفاً أيضاً، إذ تدفع الولايات المتحدة وشركاؤها الإقليميون إلى تصعيد العسكر إلى السلطة في محاولة لمنع التغيير، أو ضبطه والتحكّم بمساره، من ناحية، ولمواجهة التيارات الإسلامية من ناحية ثانية. يحدث هذا تحت مسمّى تحقيق الاستقرار (statism)، مركزية الدولة وتشجيع القوى والميول العلمانية. أما الفارق الأهم، هذه المرة، فهو أن الشعوب حاضرة بقوة في المشهد، وتلعب دوراً رئيساً في تحديد ملامحه.
طبعاً هذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها هذا الهلال، لكن ظروف اكتماله ومدته تبدو هذه المرة مختلفة، ففي المرة الأولى استغرق تشكله نحو عقدين بين إطاحة الجيش المصري الملكية في 1952، وانقلاب العقيد معمر القذافي على الملك إدريس السنوسي في ليبيا عام 1969. وبينهما انقلاب اللواء إبراهيم عبود في السودان عام 1958، وانقلاب العقيد هواري بومدين في الجزائر عام 1965. في تلك الفترة، نجح العسكر في الوصول إلى السلطة، والتشبث بها في ظروفٍ دولية مختلفة أيضاً، كان أبرز ملامحها صعود الولايات المتحدة قوة عالمية، وسعيها إلى الحلول محل القوى الاستعمارية الأوروبية من جهة، واندلاع الحرب الباردة واشتداد التنافس بينها وبين الاتحاد السوفييتي من جهة ثانية، فمع أفول نجم دول أوروبا الاستعمارية، سعت واشنطن إلى تأكيد حضورها في المنطقة العربية، ومنع حصول فراغ يملأه الاتحاد السوفييتي عبر إحداث تغيير اجتماعي – سياسي عميق فيها. وفي حين اعتمد الأوروبيون على طبقة الأعيان، من بقايا الأجهزة والمؤسسات العثمانية، للحكم والتواصل مع المجتمعات المحلية، رأت واشنطن في المؤسسة العسكرية العربية أداةً للتغيير والسيطرة. وكانت المؤسسة العسكرية العربية بدأت تستوعب، خلال هذه الفترة، أبناء الطبقات الفقيرة والمهمشة التوّاقين إلى التغيير والتخلص من حكم الأرستقراطية المرتبطة بالاستعمار. وقد دشّن الأميركيون تدخلهم في المنطقة العربية بترتيب انقلاب حسني الزعيم في سورية، كما كانوا على تواصلٍ مع الضباط الأحرار في مصر، لكن السقوط السريع للزعيم في سورية جعل واشنطن أكثر حذراً في التعامل مع المصريين.
اعتماد الأميركيين على المؤسسات العسكرية العربية التي ظلت غربية الهوى بحكم التدريب، والنشأة والتسليح، كان يعني، ببساطةٍ، أنهم غير مهتمين بتعزيز الديموقراطية العربية الوليدة، بل شجعوا الجيش للانقلاب عليها. وكما تشير الوثائق التاريخية المرتبطة بتلك الفترة، كان مسؤولو وزارة الخارجية الأميركية ميالين إلى الأخذ بنظريات التحديث (Modernization Theories) التي هيمنت أدبياتها على المؤسسات الأكاديمية الغربية. وبحسب هذه النظريات وتطبيقاتها في المنطقة العربية، كانت بنية المجتمعات التقليدية تواجه انهياراً حتمياً في وجه مد حداثيٍّ أدواتُه نظم الاتصال، التكنولوجيا، التعليم، والمعلومات. ولمّا كانت أميركا رائدةً في هذه المجالات، فقد كان ذلك يعني تعزيزاً لنفوذها الفكري، الثقافي، الاقتصادي والسياسي. والملاحظ أن نظريات الحداثة ذات المنشأ الأميركي أسقطت عن عمد الديموقراطية من معادلاتها، فيما يخص المنطقة العربية تحديداً، على أساس أن المراحل الانتقالية تتطلّب قياداتٍ قويةً قادرةً على فرض التغيير من الأعلى (نموذج أتاتورك) في بيئاتٍ ثقافيةٍ معاديةٍ للغرب وقيمه الثقافية والحضارية.
وعلى الرغم من تدهور العلاقة مع المؤسسة العسكرية العربية التي اخترقها السلاح السوفييتي في سورية ثم في مصر، بعد أن رفض الغرب تسليحها لمواجهة التهديد الإسرائيلي، ظلت الولايات المتحدة تحاول كسبها في إطار الحرب الباردة إلى أن فقدت الأمل نهائيا بدءاً من عام 1957. خلال تلك الفترة، أخذت واشنطن تميل أكثر إلى اعتماد فكرة التحالف مع القوى الإسلامية والمحافظة لمواجهة المد القومي العربي الذي يقوده العسكر، وبدأ يأخذ شكلاً أكثر تعارضاً مع المصالح الأميركية.
في الحالة الراهنة، تبدو الاستراتيجية مقلوبة، والسياق الإقليمي والدولي مختلفاً أيضاً، إذ تدفع الولايات المتحدة وشركاؤها الإقليميون إلى تصعيد العسكر إلى السلطة في محاولة لمنع التغيير، أو ضبطه والتحكّم بمساره، من ناحية، ولمواجهة التيارات الإسلامية من ناحية ثانية. يحدث هذا تحت مسمّى تحقيق الاستقرار (statism)، مركزية الدولة وتشجيع القوى والميول العلمانية. أما الفارق الأهم، هذه المرة، فهو أن الشعوب حاضرة بقوة في المشهد، وتلعب دوراً رئيساً في تحديد ملامحه.