هكذا تتغير ثقافتنا

09 مايو 2017
هل غيّرت صورة الـ"سيلفي" في عاداتنا؟ (فرانس برس)
+ الخط -

هل تذكر ذلك الفتى الذي كان يقف تحت شقتك السكنية من الجهة الخلفية للمبنى يغازل حبيبة له، في الدور الأول أو الثاني، همساً، فيمضيان وقتاً طويلاً، هو يعلق عينيه ورقبته في السماء، وهي لا تظهر إلاّ بالكاد، ويصدّعانك ويصدّعان آخرين، حتى يأتي والدها فتهرع إلى الداخل، أو ترمي ربة منزل ما في وعائها من مياه فوق الفتى مع شتيمة أو من دونها، فيهرب هو هذه المرة وقد يشتم أيضاً بينما يسرع الخطى؟ لم يعد موجوداً اليوم، فثورة الاتصالات علّقت رقبته في هاتف محمول يمنع مياه الغسيل من الوصول إليه، لكن هل بقي للحبّ نفسه ذلك الطعم؟

التعريف الشهير لمفهوم الثقافة ما زال منذ نحو قرن ونصف حيّاً كما وضعه السير إدوارد تايلور، الأنثروبولوجي الإنكليزي، في كتابه "الثقافة البدائية" ينصّ على أنّ "الثقافة هي كلٌّ مركّب يشتمل على المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكلّ القابليات والعادات الأخرى التي يكتسبها إنسان في مجتمع معيّن".

مناسبة هذا الاقتباس التفريق ما بين نوعين من الثقافة كما تحددها سوسيولوجيا الثقافة، وهي الثقافة المادية والثقافة المعنوية ومدى التفاعل بينهما. فمن المعروف أنّ استخدام عناصر الثقافة المادية بما فيها من أدوات وتقنيات وفنون مختلفة لإدارة الحياة اليومية لمجتمع معين، يؤثر تماماً في الثقافة المعنوية للمجتمع نفسه المؤلفة من العادات والتقاليد والقوانين وغيرها.

كثيرة هي الأمثلة على ذلك، لكنّنا اليوم في بؤرة بحثية مهمة جداً تدور فيها عملية التأثير تلك المؤدية إلى تغير ثقافي يؤسس لعادات وقيم جديدة مختلفة عمّا كان قبل الاستخدام الجديد للتقنية والأداة. ولعلّ الأفكار الجديدة الناشئة عن ذلك الاستخدام تستدعي هي بدورها ابتكار أدوات وتقنيات مختلفة تتلاقى معها وتتوافق.

ثورة الاتصالات وما جاء فيها من وسائل تواصل اجتماعي بدّلت وما زالت تبدّل الكثير من العادات والتقاليد والمعتقدات والأفكار. فلكلّ شيء فوائده ولكلّ شيء مضاره في الوقت نفسه.

قديماً (قبل بضع سنوات لا أكثر ربما) كان الجيران والأقارب يأتون إلى بيوت بعضهم بعضاً من دون مواعيد تلفونية أو "واتسابية" مسبقة، فإن طرقوا الباب ولم يُفتَح وضعوا علامة ما تدلّ على مجيئهم، كقشة مكنسة في قفل الباب، أو منديل ورقي على مقبضه، أو حتى أزاحوا السجادة أمام عتبته.

هو تغير يمتد إلى كلّ شيء، ويسمح بانتقائية كبيرة في اختيار من تريد أن تتعامل معه ومن لا تريد. لكنّك في المقابل مكشوف أكثر من أيّ وقت مضى على الآخرين بكامل تفاصيل حياتك، سواء بسببك أو بسبب المحيطين بك، فهل من مهرب إلى عزلة في قلب حضارة قائمة على مثل هذا الانفتاح؟


المساهمون