لا يُقدّم الباحث النمساوي، هانيس هوفباور (1955)، في كتابه الجديد: "نقد الهجرة: الرابحون والخاسرون"، الذي صدر حديثاً بالألمانية عن "دار بروميديا"، نظريةً نقديةً في الهجرة، ولكنه ينجح في أن يختطّ لنفسه طريقاً ثالثاً في معالجة هذه القضية التي لم تطرح نفسها على الفكر السياسي الألماني إلّا في السنوات الأخيرة، مقارنةً بالفكر السياسي الأميركي، وخصوصاً مع وصول اللاجئين السوريين إلى ألمانيا في عام 2015. المقصود بالطريق الثالث، هنا، أن هوفباور استطاع أن يتحرّر من الموقفَين اليميني واليساري من هذه القضية، ما جعله يتمكّن من الإحاطة بأبعادها المختلفة، ويفكّك الكثير من الأوهام التي تغلّفها.
يُنظَر اليوم إلى المهاجرين، على الأقل في خطاب اليمين واليمين المتطرّف، كخطر محدق بالمجتمع، يهدّد استقراره على مستويات عدّة: ثقافية واقتصادية ومجتمعية. ولعلّ انتشار مثل هذه الرؤية، التي عرفت طريقها إلى قطاعات واسعة من الشعوب الأوروبية، يؤكّد الحاجة إلى نقد سوسيو ـ اقتصادي بنيوي لظاهرة الهجرة، لا يكتفي بمعالجة الأعراض، بل يبحث كشف الأسباب الحقيقية التي تقف خلفها، وهذا ما يحاول المؤلّف القيام به في كتابه هذا.
غالباً ما يكتفي الخطاب السياسي في أوروبا، في زمن صناعة الوعي النيوليبرالي، بنقد ثقافوي، وهو نقد يؤكّد من جهة الموقف العنصري الذي لم تستطع المونوديمقراطيات الغربية تجاوزه، واكتفت بكبته في الأعماق. وما ينساه مثل هذا الخطاب أنّ لا أحد يفكّر في الهجرة عن طيب خاطر؛ فالهجرة ليست معياراً، بل الاستقرار، كما يؤكّد الكاتب اعتماداً على ما كتبه العديد من المؤرّخين لهذه الظاهرة. ووفقاً لأحد كبار المؤرّخين الألمان، ليوبولد فون رانكه، فإن السبب الرئيسي للهجرة يكمن في الحرب. ومؤخّراً رجع الفيلسوف التشيكي سلافو جيجيك بظاهرة اللجوء إلى الرأسمالية المعولمة وألعابها الجيوسياسية.
تقدم الهجرة للرأسمال الكبير فائدة كبيرة، ذلك أنه في بحث مستمر عن أيد عاملة رخيصة، ويمكننا إذا ارتدينا نظارة السوسيولوجي ونزلنا إلى المدن الألمانية الكبيرة، وبحثنا فقط في طبيعة الأعمال التي يقوم بها مهاجرون مغاربيّون طردتهم الأزمة الاقتصادية من إيطاليا وإسبانيا، أن نقف على عملية استغلال ممنهجة لهم، تتمثّل خصوصاً في ساعات العمل اليومية التي قد تصل إلى أربع عشرة ساعة يومياً، مقابل أجور زهيدة.
ولهذا يمكننا أن نقول وبدون مبالغة: من لا يريد أن يتحدّث عن الرأسمالية، عليه أن يسكت عن الهجرة، ذلك أنه لا يمكننا فهم الهجرة دون أن نفهم الصراع المتعلّق بتوزيع الثروة على مستوى العالم. للسبب عينه، تبدو رطانة الاندماج عرجاءَ وخطاباً غريباً عن العالم؛ إذ يتوجّب علينا، بالأحرى، أن نُعمِل فكرنا بالعلاقة الصميمية بين الرأسمالية والحرب والهجرة.
لقد عبّر الاشتراكي جان جوريس، الذي اغتاله قوميون متطرّفون أياماً قبل الحرب الكبرى، عن ذلك بوضوح، مؤكّداً أن "الرأسمالية تحمل بداخلها الحرب، كما تحمل السحب المطر". مقولة جوريس هذه يمكن فهمها بشكل أفضل لو ألقينا نظرةً على كتاب الفيلسوفة الماركسية روزا لوكسمبورغ "تراكم الرأسمال: مساهمة في التفسير الاقتصادي للإمبريالية"، والذي صدر في عام 1913. لكنها كانت قد عبّرت عن الفكرة الأساسية لكتابها منذ زمن مبكر، في مقال نشرته في مجلّة "الراية الحمراء" البولندية في عام 1904 يحمل عنوان: "الحرب".
ولربما كان صاحب "نقد الهجرة" سيختصر الكثير على نفسه، لو عاد مباشرةً إلى لوكسمبورغ، بدل الاكتفاء بكتاب جيجيك "الصراع الطبقي الجديد"، الذي لا يقدّم جديداً يُذكَر مقارنةً بما كتبته روزا لوكسمبورغ في ذلك الوقت المبكر من القرن العشرين؛ إذ تقول في مقالها "حرب": "في الوضعية الحالية للسياسية الدولية، كل حرب بين قوّتين تُهدّد بالتحوُّل إلى صراع مسلَّح للمصالح المتناقضة لكل القوى، ومهدّدة بأن تصبح حمّام دم كونياً. لقد أصبحت أوروبا ضيّقة على الرأسمالية، وبدأت القوى الرأسمالية كلّها بالدفع بأفريقيا وآسيا في دوّامة التطوُّر الرأسمالي، وهو ما يمثّل خطراً مستمرّاً باندلاع حرب دولية في هاتين المنطقتين من العالم".
لا يمكن إذن، كما يرى هوفباور، نقد الهجرة من دون نقد للرأسمالية المعولمة وبنياتها الاستغلالية، ومن دون مساءلة للسياسة النيوليبرالية التي تعبّر عن نفسها في العديد من السياسات الاقتصادية والثقافية. مثلاً، فإن الاستثمارات الزراعية في أفريقيا، والتي حوّلت الناس في المنطقة إلى بشر زائدين لا حاجة لسوق العمل إليهم، قد عمّقت تبعية القارة الأفريقية للمركز الغربي.
هكذا، تنكشف اتفاقيات التجارة الحرّة كإحدى الأكاذيب التي يروّج لها الاقتصاد العالمي، إذا ما تعلّق الأمر بتجارة حرّة تربط بين شركاء غير متساوين. وهوفباور يحمّلها المسؤولية عن الهجرة واللجوء كما يحمّل الحروب الرأسمالية ذلك. وقد يكون أكبر معبّر عن البنية الاستعمارية اتفاقية التجارة الحرّة، وما يُسمّى في الأدبيات السياسية بـ "الميثاق الكولونيالي" (Pacte colonial)، الذي يحدّد العلاقات بين فرنسا والعديد من الدول الأفريقية.
يمثّل ارتفاع اللامساواة الاجتماعية والإقليمية، اليوم، أحد الأسباب الرئيسية للهجرة. ولم يبالغ سلافو جيجيك حين اعتبر أن الصراع الطبقي اليوم يتحقّق على مستوى العالم بأكلمه، فهو لا يرتبط بالفوارق الطبقية داخل مجتمع بعينه، بل يضرب كلّ المجتمعات التي وصلتها الرأسمالية، ولربما يكون جيجك غير دقيق في استعماله مفهومَ الصراع الطبقي، لأنه في ظلّ النيوليبرالية، لا يمكننا الحديث عن صراع طبقي، يمثّل بالأحرى طبيعة النظام الاجتماعي في مرحلة مبكّرة من الرأسمالية، فالأمر يتعلّق بنظام جديد للرق، تحصنه الأدلوجة الاستهلاكوية، وبطبقة لا تملك وعياً بوجودها كطبقة، ولا بمصيرها ولا بضرورة الصراع.
ولكي نعود إلى كتاب "نقد الهجرة"، فإن هوفباور يؤكّد بأن الدولة الاجتماعية نفسها، والتي يتمّ الاحتفاء بها كأحد أكبر إنجازات الحداثة الأوروبية، والتي حافظت وتحافظ منذ عقود على السلم الاجتماعي في أوروبا الغربية والشمالية، هي نفسها لم يكن لها أن تتحقّق على أرض الواقع، إلّا نتيجة للسياسة الأوروبية التي تقوم على استغلال دول الأطراف في أفريقيا وآسيا. لقد سمحت هذه السياسة للرأسمالية، كما يكتب، بالتغطية على مظاهر اللامساواة في دول المركز، وتصديرها إلى دول الأطراف. ولهذا يرى في حركات الهجرة اليوم تعبيراً عن الصراع الدولي المرتبط بالعدالة التوزيعية.
في نهاية كتابه، سينتقد هانيس هوفباور، أيضاً، السردية اليسارية المعاصرة حول الهجرة، والتي تكتفي بالاحتفاء بالتعدُّد المجتمعي من دون مساءلة حقيقية لطبيعة النظام النيوليبرالي، ويرى أنها سردية عوّضت مبدأ المساواة بمدأ التعدُّد، وتُحوّل الحق في أن تكون مختلفاً إلى عنوان للسياسة اليسارية، لكن هوفباور يرى أن مثل هذه السياسة تقودنا في نهاية المطاف إلى فردانية متطرّفة أو إلى سياسة قومية للهوية.
وفي رأيه، فإن هذا الاحتفاء بالتعدُّد لا يمس النظام الرأسمالي في شيء، ولا يهدّد سلطته، لأنه يفكّر في الاختلاف من خارج الأجندة الاجتماعية.