نصف ليرة

26 مايو 2015
لم تتغير قدرتها الشرائية (فرانس برس)
+ الخط -
نهاية عام 1988، كانت العملة اللبنانية تنهار بشكل متسارع، بعد ثبات لفترة قصيرة. فقد كانت نهاية عهد رئيس جمهورية، وبداية عهد حكومتين متخاصمتين، إحداهما مدنية هي التي كانت قائمة أساساً، والثانية عسكرية شكلها الرئيس على عجل قبل مغادرته قصر بعبدا.

كنا كصغار، نستمع إلى هذه الأخبار من الإذاعة أو التلفزيون الذي بات لدينا ثلاث قنوات مختلفة فيه. وبعدها ننعم بتحليلات أهلنا وجيرانهم، ونشهد على اصطفافاتهم. فندرك تلقائياً مع أيّ جانب نحن. نؤيده ونؤيد من معه، ونعادي الجانب الآخر.

لكنّ تلك المسألة كانت آخر اهتماماتنا، ومعها الحرب التي نعتبرها لعبة نستسيغ الهروب إلى ملاجئها، وسماع أصوات قصفها، ومشاهدة زعمائها وأمراء زواريبها يأتون إلى مدارسنا - عندما تفتح- ويباركون جمعنا. كما تتيح لنا فرصة جميلة في سماع ناظر المدرسة، أو مديرها، يصرخ لا شعورياً "بأمرك"، لمسلّح استعان به أهل أحد التلاميذ الذي طرد لأنّه لم يدفع القسط. وغالباً ما يكون المسلّح يريد بدوره أن ينال الحظوة المطلوبة لدى الأهل من أجل الزواج بابنتهم بوفاق وسلام ومحبة، وعدم اضطراره إلى خطفها وما فيه من خسارة فوائد يجنيها في المجيء إلى بيتهم يومياً والأكل فيه والمبيت أحياناً.

كلّ همنا كان مصروفنا اليومي، أو "الخرجيّة". وخرجيّتنا شهدت ارتفاعاً متواصلاً، على وعيي، من ربع ليرة إلى نصف ليرة وصولاً إلى ليرة كاملة، من دون أن يغير ذلك قدرتها الشرائية. ليرة نشتري بها لوح شوكولا "رامبو"، وعلبة عصير صغيرة "بونجيصة" لا أكثر.

خلال تلك الفترة شهدنا اختفاء كلّ العملات المعدنية ما دون النصف، وهي من المعدن النحاسي. ولم يبق من العملات المعدنية إلاّ النيكلية، وتحديداً الليرة ونصفها.

اعتاد والدي على إعطائنا خرجيتنا صباحاً حتى ولو لم يبدأ موسم المدرسة بعد بسبب حروب صغيرة متكررة. وفي أحد تلك الأيام، خبرت شيئاً جديداً بنفسي. فقد أعطاني والدي ليرة، نصفين، ذهبت بهما إلى دكان الحي، لأشتري "الرامبو والبونجيصة" كعادتي. لكنّ الدكانجي رفض ذلك، وأفهمني أكثر من مرة: "ما عاد يمشو النصاص (الأنصاف)".

رضخت، وفكرت بسرعة، وطلبت من أخي الذي يتجاوزني بسنوات أن يستبدل معي ليرته الكاملة بنصفيها. لم أخبره ما قاله الدكانجي، ووافق على ذلك. فحظيت بالفعل بما أرغب بشرائه، ولم تضايقني "القتلة" التي أكلتها من أخي كثيراً، فقد كان شعور النصر أكبر.

كبرنا وعرفنا لماذا كانت العملة تنهار وتكبر أرقامها يوماً بعد يوم، حتى باتت الأصفار كثيرة فيها. عرفنا أكثر أنّ هنالك دائماً من استفاد ويستفيد من انهيارها. وكما حصل في لبنان، يحصل اليوم في سورية.

إقرأ أيضاً: أم بلال تذبح الكرة
دلالات
المساهمون