نحو تونس (1)... من أجل عين أبي!

05 ابريل 2020
+ الخط -
ولدت لي ابنة في مطلع عام 2001، في عيادة ابن سينا التي كانت مخصصة لمستخدمي قطاع النفط. عانت من مشكلة صحية في قناتها الدمعية بحيث كانت تمتلئ قيحاً لأنها مغلقة. كانت والدتها تسهر على تنظيفها أكثر من مرة يومياً. كانت العملية مؤلمة جداً. جاءت مجموعة اختصاصيي عيون كبار من بلدان عدة ومصر في نهاية صيف 2001 لحضور مؤتمر علمي في بنغازي. تلقيت دعوة لحضور أعمال المؤتمر من كبير مصوريه الذي كان على علم بمعاناة ابنتي. التقيت زميلة لي بكلية الطب عرفتني إلى الأساتذة الكبار، وكانت وقتها تتلمّس طريقها في تخصص العيون آنذاك.

طلبت مني أن أحضرها إليهم في عيادة العيون بمنطقة سيدي حسين. قدمت بصحبة زوجتي التي هي في دفعتها وصديقتها، عملوا بعض الفحوصات وأبدوا عجزهم، ونصحونا بالتوجه إلى مصر أو تونس. كنت أثق كثيراً بالعنصر الليبي، ففضلت أن أعرض ابنتي على الاختصاصيين الليبيين، ونصح زملاء زوجتي بأن أزور الدكتور "فلان"، وكان شاباً متفوقاً جداً في مجاله.

من الاسم، خمّنت أنه ممن انتقلوا في زلزال المرج الى بنغازي، وبقوا فيها. زرته وزوجتي وابنتي، وعرف أني من أصلاء منطقة المرج، فرحّب بي كثيراً. تأكد ما خمنته وتبين أنه من المرج القديمة. علم خلال الاستشارة أن زوجتي طبيبة كونه تحدث مع طبيب. سألها عن اسمها فعرفها، وقام بعد المعايدة بإرجاع ثمنها، وطلب أن تأتي إليه في مستشفى "النهر" لطب وجراحة العيون ليجري لها عملية تنظيف دقيقة في قناة مجرى الدمع، مؤكداً أننا محظوظون، وجئنا في الوقت المناسب، إذ كان هناك مؤتمر علمي الأسبوع الماضي، استفادوا فيه من بعض التطورات. ولو حضرنا قبل أسبوعين، لما أجرى لابنتي العملية.

أتذكر أن العملية أجريت أول يوم في الأسبوع، على أن ننتظر يومين أو ثلاثة، فإن لم تنفتح القناة فقد فشلت العملية. وحينها سيعطينا اسم اختصاصي كبير في مصر لديه إمكانات أفضل، ونسب النجاح أعلى بكثير. انتظرنا إلى الثلاثاء ولا بوادر لنجاح العملية. اتصلت بالدكتور، وأعطاني العنوان، وتأسف كثيراً على المحاولة الفاشلة.

الأربعاء اتصلت من مكتبي بالإسكندرية، حيث توجد عيادة الدكتور، تحدثت إلى الدكتور باستفاضة وعن المحاولة التي أُجريت. فقال لي أحضرها "وإن شاء الله تروح مبسوط". كلمت زوجتي وأخبرتها بأن تستعد للسفر إلى مصر غداً الخميس مساءً، لتدخل الصغيرة العمليات يوم السبت بحسب ما رتبت مبدئياً مع الدكتور.

كلمت صديقاً عزيزًا، وهو مدير إدارة المبيعات طالباً حجزاً غداً على الشركة الليبية للطيران مساءً. حجز وأعطاني رقم الحجز. الخميس صباحاً، كنت عازماً بعد المرور على الشركة أن أذهب إلى الخطوط لشراء تذاكر السفر، بعد أن أمّنا الإقامة لابنتي الكبرى مع جديها لوالدتها، وهي أساساً تقضي ثلثي اليوم معهما.


دخلت مكتبي لقضاء بعض الأمور، منها بالطبع مكالمة الدكتور لتأكيد الموعد. فإذا بمكالمة خارجية من بيت أهل زوجتي أتلقاها. رفعت السماعة، كانت زوجتي في قمة السعادة، أخبرتني أن أمور المولودة عال العال، وأنها حين أرادت الضغط على القناة لإخراج ما بداخلها لم تجد شيئاً. طلبت منها التروي والتأكد وإعادة المحاولة بعد ساعات وأن تخبرني بالنتيجة. غيرت رأيي وانتظرت في مكتبي، إلى أن جاءني هاتف آخر منها وهي أكثر سعادة، تؤكد لي أن العملية نجحت ولا داعي للسفر. كلَّمت الدكتور في الإسكندرية وأخبرته أنه لا يبدو أن هناك حاجة لقدومنا، ولكن إذا لم تستمر بالتحسن حتماً سأتصل به الأسبوع المقبل لتحديد موعدٍ آخر، فوافقني وأثنى على ذاك الدكتور الذي يعرفه.

احتفظت بصداقة مع الدكتور بعد أن شفيت ابنتي. وفي عام 2007 كنت ملتزماً بعقْدَي تدريس كمتعاون مع كلية الهندسة وأيضاً قسم الكمبيوتر في كلية العلوم بأجدابيا. أحدهما يوم تفرغت فيه مقابل التنازل على أجري من الشركة، والآخر كان يوم سبت وهو عطلة رسمية لدينا بالشركة. آنذاك اتصل بي والدي شاكيًا عينه التي لم يعد يرى بها جيداً، أخبرته في مكالمة لاحقة سريعة أن يحضر لي في يوم محدد، حيث حجزت له مع ذلك الدكتور.

أحضره أخي الضابط، وكانت عيادة الدكتور لا تبعد أكثر من نصف كيلومتر عن البيت. قلت لوالدي إنه ابن فلان من المرج، قال أعرف والده حق المعرفة. دخلنا على الدكتور، وبعد أن قام الدكتور بفحصه بادره الوالد بعدة أسئلة، بحسن نية، وحقيقة أن الأسئلة لم تكن مناسبة للدكتور، فقد تغيرت الدنيا والطباع، لكنها أسئلة عادية بالنسبة لوالدي.

خرج الدكتور مرتبكاً. غاب نحو ربع ساعة وعاد، وكنا وفدًا مكونا مني وزوجتي وأخي الدكتور المتخصص في التخدير، والذي بالمصادفة أصبح زميلاً لذلك الدكتور لاحقاً بعد فبراير/ شباط. كنت دوماً أمازح أخي وأطلق عليه لقب "البناج".

عاد الدكتور وعليه علامات غضب، توجه إلى والدي قائلاً: "أنت تعاني من ارتخاء في عصب العين وهذا لا علاج له أبداً، كل ما عليك فعله هو المحافظة قدر الإمكان على عينك والمتابعة المستمرة". خرج بعدها مسرعاً حتى دون أن يسلم علينا.

انزعج والدي بشدة، أنزلناه إلى شقتي، محاولين جهدنا إقناعه بأن هذا مجرد رأي، وسآخذه إلى تونس مع نهاية العام الدراسي في شهر مايو لننظر في طلب آراء أخرى. لم يكن مرتاحاً أبداً، وكان يردد كلمة "عين واحدة عين بلاش"، فهمت أنه يقصد أن العين الواحدة مثل "قلتها". قفلوا راجعين إلى لمرج فوراً، رغم أننا كنا قد أعددنا لهم العشاء مسبقاً.

كلمني في نهاية فبراير وأخبرني بأنه لا يستطيع الانتظار إلى شهر مايو، وسيذهب هو وصديقه مع بداية مارس إلى تونس بالسيارة. قلت له لم الاستعجال؟ ولم ترهقوا أنفسكم في سفر بري طويل يفوق ألفاً وسبعمائة كيلومتر. وطلبت منه الانتظار مرة أخرى، فرفض.

بالنسبة للشركة لا مشكلة لي فيها مطلقاً، خاصة أن لدي رصيداً كبيراً من الإجازات، لكن المشكلة تكمن في التعاونات، التي بالنسبة للهندسة هي مواد تخصصية في الفصل الخامس والسادس. أما الكمبيوتر فهي مادة إجبارية في فصل التخرج تركها دكتور بولندي، فكلَّفوني بها.

كلمت رئيسي في الكليتين، وأخبرتهما أني قد أتغيب عن الحضور لمحاضرة ولربما تمتد لاثنتين، أي أسبوعين. فقالا لي لا مشكلة، خاصة أنني متقدم في المنهج، وجاملاني قائلين: "إن كنت تريدنا أن نغطي عليك فسنفعل ذلك بكل ممنونية"، شكرت لهما هذه "المجاملة" اللطيفة، إذ إني أعلم أنهما لن يستطيعا فعل ذلك حتى لو حضرت لهما المحاضرات، وهي كانت جاهزة فعلاً وطلبت منهما تسليمها إلى الطلبة ووضعت إعلاناً بإلغاء المحاضرة الأسبوع المقبل.

اتصلت بشركة الطيران سائلاً عن الرحلات إلى تونس، فأخبرت أنها ثلاث في الأسبوع لليبية ومثلها للتونسية بأيام متفاوتة، سجلتها أمامي، وكلمت الوالد، وطلبت منه أن يجهز حقيبة ملابسه ونلتقي غداً مساءً في المطار قبل الرحلة الليلية بساعتين.

"ولم أنت مستعجل لهذا الحد؟"، سأل والدي، أجبته أنه هو المستعجل. أبي شخص منظم، حتى الانتقال من حي إلى حي يخطط له وللطريق التي سيسلك وكم سيبقى هناك وأشياء أخرى، وأعرف أن أي موعد سيفاصل عليه ولن يعجبه، فقررت "مفاجأته" بهذا الموعد الـ"أسرع من لمح العين". الرحلة موعدها الاثنين، موعد محاضرتي، وفعلياً خططت للسفر يوم الخميس بعد أن حجزت له الاثنين الذي يليه في واحدة من أفضل عيادات العيون بتونس العاصمة.

وبعد مفاصلات أعطيته طوق النجاة، وسألته عن رأيه بالسفر الخميس المقبل. الخميس ذلك أفضل بكثير، أعطيته موعد الوصول إلى المطار وسبقته وزوجتي التي أحضرتها برفقتي لسببين، أولهما لتساعدني في النقاشات الطبية والحلول وفعلاً أفادتنا أكثر مما نتصور، والثانية أننا ما دمنا قد ذهبنا كنت أريدها إجازة ممتعة بعيداً عن المسؤوليات والواجبات. هذه المرة تركنا الأطفال بعد أن أضحوا ثلاث بنات عند بيت أهلي، فقد توفي جدهم لأمهم عام 2002 وجدتهم لأمهم عام 2005.

8E38CF27-B10A-4916-A022-177616221C42
أحمد يوسف علي
مختص في نظم المعلومات ومحاضر جامعي سابق.