المنجزات العظيمة تبدأ بأحلام كبيرة!
(1)
جدتي المعمرة التي اقتربت من القرن عمرا، كانت تمتلك راديو متطوراً، وتستمع إلى كل شيء من الأخبار إلى الأغاني، تعرف معظم أسماء الدول وتَلْحنْ في نطقها، ومنها قطر، كانت تنطقها قطرا، وتوفيت قبل افتتاح "الجزيرة" بأشهر، فلم تشهد العصر الذهبي لنهضة قطر.
كنت صغيرا في بداية الثمانينيات، حينما تمت مراقبة الصحف التي ترد لليبيا وتعيين هيئة لهذا الغرض، أتابع مجلة قطرية رياضية فاخرة، الأغلى سعرا، وهي "الصقر". عشقي للرياضة التي مارستها وقتها، جعلني أتابع كل المجلات والرياضة تحديدا.
كنا نتابع كأس الخليج، أعتقد السادسة، في الكويت من خلال ملحق رياضي لهذه المجلة، أو لعلها مجلة أخرى. لكن المؤكد أن بطولة كأس الخليج السابعة في عام 1984 تابعتها من خلال هذه المجلة. كان فيها كُتّاب ومراسلون يسافرون بك لمكان الحدث ويجعلونك تعيش الحدث بأدق تفاصيله، بل يصل الأمر وكأنك تتابع المباراة في الملعب.
عام 1995 كان عاما مفصليا لدولة قطر. تولى رئاستها الشيخ حمد آل ثاني، ليبدأ بها مرحلة جديدة نقلتها للنجوم. بعد توليه بنحو عام، تم تأسيس قناة "الجزيرة"، التي حلقت عاليا. كنّا قبلها نعتقد أن "مونت كارلو" دولة كبيرة من خلال راديوها [العملاق] الذي يصل لكل أنحاء العالم.
في 26 عاما، ربع قرن، فعلت قطر كل ما يخطر على البال أو لا يخطر. من هنا حدث التحول القطري.
في العام 2013 تنازل الأمير حمد، وهو في عز شبابه وأوج عطائه، عن الحكم طوعا لخليفته ابنه الشاب الأمير تميم، الذي أكمل مسيرة نحو 18 سنة من حكم والده، وسار على نهجه وأضاف.
(2)
جزيرة العرب هي مقر العرب بشقيهم، قيسية ويمانية. رغم هذا لم أسمع حاكما من دولها السبع وكانت ثمان يتغنى بالقومية العربية مرددا أمجاد يا عرب أمجاد، كانوا يتنافسون في ما بينهم على التطور، وهي منافسة مشروعة. فيما أرهقنا الزعيم عبد الناصر بقوميته العربية التي تسببت في كوارث للمنطقة.
تأثر به معمر القذافي ونسب له الانقلاب على الملك إدريس في وقت كانت فيه ليبيا قد سبقت كل هذه الدول في إحداث التنمية والتخطيط لعشرات السنين للأمام. العراق كان يحكم من أسرة مالكة ويسير حثيثاً نحو الرقي وكان لخطابات عبد الناصر دور في تأجيج العسكر وتحريضهم للقفز على السلطة على ظهر دبابة في [انقلاب] أحمر قان بلون الدماء التي سفحت وعاش في انقلابات وتقلبات إلى يومنا هذا.
لم نسمع يوما عن شعارات قومجية في دولة قطر، رغم أنها من منابع العرب، فيما أشك بعربية عبد الناصر والقذافي وكل المنقلبين، لكنها جسدت هذا الشعار واقعا، وتخطته إلى الخصوصية الإسلامية، بل والانتماء والتمازج مع الكوكب، الإنسانية قاطبة.
تسمح قطر لصبي عربي أن يفتتح هذا المحفل الكبير بآيات قرآنية، وسمحت لكل العرب والمسلمين بمشاركتها في عرسها، وهذا يصب فعلا لا قولا في خانة الإسلام والعروبة، شعار رفعه البعض سابقا للمتاجرة، فيما أفقروا شعوبهم وأفنوها وهجروها. بل تخطت المساهمة العرب والمسلمين إلى من سواهم.
(3)
حين يدفع بعضهم بالقول إن الدول الصغيرة هي دوما متطورة، فهذا ليس مدحا لقطر مطلقا. الدول الكبيرة مساحة وسكانا هي الأعظم في الكون، وحين تدخل قطر على خط المنافسة ليس على صعيد البنى التحتية فقط، بل في كل المجالات، من تعليم وصحة وتنمية وغيرها، إضافة إلى ما أنفق من مليارات من أجل تطوير بنية تحتية تميز قطر وتخدم القطريين مستقبلا، فذلك هو الفخر حقا.
دولة صغيرة جدا مساحة وسكانا، حباها الله في التسعينيات بثروة غازية لم يك من السهل استغلالها، إضافة لرجال مخلصين حرصوا على وطنهم ومواطنهم بقيم عالية لعل الجميع تابعها، يجعلها متميزة متفردة، تغريدها يصل لمسافات لا تصلها الأصوات. هذا وغيره يجعلنا نفتخر بقطر ورجالها المخلصين الذين لم يبددوا أموالهم على نزوات بل استثمروا في الإنسان قبل العمران، وقبلوا العرب والمسلمين، لتكون قطر بيتهم الكبير.
في وسط سحابة قاتمة تخيم على جميع دولنا، وليل أشبه ما يكون سرمديا بدا أن لا نهاية قريبة متوقعة لزواله، بزغ فجر قطر لتجدد لنا أملا في حياة كريمة للإنسان في بلاده، محافظة على جميع قيمها وثوابتها، واقفة كالطود في وجه دول كانت يوما عظمى.