في عام 1975 غادر نصر اليوسف سورية للدراسة في الاتحاد السوفييتي. تزوج من روسية ورزق بولدين، أمجد ونديم. عاد نصر اليوسف مع زوجته وابنيه إلى بلده، لكنه في عام 1989 قرر العودة للإقامة الدائمة في موسكو. ومنها كان الشقيقان أمجد ونديم اليوسف يترددان حتى عام 2010 على بلدهما سورية مرة إلى مرتين في العام.
ولد أمجد في موسكو عام 1981، لأب سوري وأم روسية. عاش طفولته متنقلاً بين روسيا وسورية. وحين استقر الحال بالوالد وأسرته في العاصمة الروسية، كان أمجد يلتحق بالمدرسة السعودية التي تخرج منها ليلتحق بجامعة "سيتشينوف"، متخصصا في جراحة التجميل.
لم يمض وقت طويل حتى أصبح هذا الطبيب مسؤولا عن عيادة كبيرة وسط موسكو مطلقا عليها اسم "داماس" (دمشق)، حيث تعمل فيها طبيبتان روسيتان وموظفون إداريون "حيث نجري كافة أنواع عمليات التجميل. وأجرينا عمليات لعدد من المشاهير بأحدث المعدات، إضافة إلى أنه بات لدينا في العيادة قسم لمعالجة مشكلة البدانة"، يقول أمجد لـ"العربي الجديد".
ويروي أمجد مسيرته لاختيار التخصص في جراحة التجميل، قائلا: "منذ صغري كنت أحلم أن أصبح طبيبا، لكنني لم أكن مستعدا لمشاهدة معاناة الناس يوميا، فوجدت أن جراحة التجميل هي التخصص الوحيد الذي يعفيني من ذلك".
لم يكن تحقيق هذا الحلم سهلا، إذ لم تظهر جراحة التجميل كتخصص منفصل في روسيا إلا في عام 2012، ما دفع أمجد إلى التخصص في جراحة الفك والوجه أولاً، ثم الانتقال إلى تخصص التجميل بعد ظهوره. وبعد تخرجه، شارك أمجد في العديد من الدورات التدريبية، ونال ما يزيد عن عشر شهادات في تخصصات ضيقة لجراحة التجميل. ولا يجد أمجد الذي يجيد اللغة الروسية إجادة تامة، أي صعوبة في التعامل مع رواد عيادته الروس، ويؤكد أن أصوله العربية لا تؤثر على عمله.
وتوجت جهود أمجد بحصوله يوم الأربعاء الماضي على جائزة "غراتسيا" (الجمال ـ الرشاقة) في فئة تجميل محجر العين (الجفنان ومحيط العين). وتعتبر هذه الجائزة من أهم الجوائز في مجال الصحة والتجميل، إذ أنها استحدثت منذ عام 2004 وبدأت تمنح للمتميزين من الجراحين في مختلف اختصاصات الجراحة التجميلية في روسيا، كما أنها تمنح للعلامات التجارية في مجال الصحة والتجميل، وتهدف إلى تعريف المستهلكين بها، وتحفيز استخدام أحدث التكنولوجيا في هذا المجال.
ويسعى أمجد حاليا لتسجيل براءة اختراع تحت اسم "عين كليوباترا"، إذ كان أول من استخدم هذا المصطلح في جراحة التجميل في روسيا.
أما شقيقه الأصغر نديم، وهو مواليد موسكو عام 1985، والذي اختار هو الآخر الطب عن حب منذ صغره وتلقى تعليمه في الجامعة ذاتها وتخصص في جراحة القلب والأوعية الدموية، فيذكر لنا أن المرضى الروس كانوا في البداية يستغربون من اسمه العربي، ولكنهم تعودوا عليه بعد انتشار تقييمات إيجابية لأعماله على المواقع الطبية على الإنترنت.
يقول نديم لـ"العربي الجديد": "تخصصت أولا في الجراحة العامة ثم في جراحة القلب، وأعمل حاليا بمركز "بيتروفسكي" العلمي للجراحة، وهو مركز رائد للجراحة الدموية في روسيا".
قبل التحاقه بمركز "بيتروفسكي"، عمل نديم في عدد من المستشفيات في موسكو وتدرب في عيادات بضع دول الخليج العربي.
على الرغم من صغر سنه، تعلم نديم إجراء عمليات دقيقة مثل تغيير الشرايين وعمليات قوس الأبهر، وأعد أكثر من عشر دراسات وسجل براءتي اختراع في مجال علاج قوس الأبهر، ويسافر كثيرا إلى جمهوريات شمال القوقاز الروسي لإجراء عمليات جراحية للمرضى هناك، ويشارك بشكل منتظم في مؤتمرات لجراحة القلب في روسيا وخارجها.
وحول علاقته بسورية، يضيف نديم: "قبل بدء الأحداث في سورية، كنت أخطط للعودة للعمل هناك، ولكن تغير الوضع دفعني إلى البقاء في روسيا وإجراء أبحاث علمية وطبية، وأجري حاليا بحثين بالتعاون مع كندا".
وعلى الرغم من المأساة الإنسانية التي تعيشها سورية منذ بضع سنوات، لا تزال هناك قصص لنجاح أبنائها في المهجر تبدو وكأنها شعاع نور في نفق مظلم، وأمل في أن تسمح الأوضاع بعودة السوريين إلى وطنهم يوما ما وتوظيف خبراتهم هناك.
فالأخوان كانا يخططان سوية للعودة مستقبلا إلى سورية للعمل ضمن تخصصهما. وإن لم تسمح التطورات في سورية خلال السنوات الماضية فإن هذين الشقيقين ما يزالان يأملان بأن تنتهي المأساة السورية بما يسمح لهم ولكثير من مغتربي هذا البلد بالعودة وتقديم ما تعلموه لشعبهم.
وفي حديث "العربي الجديد" مع والد الجراحين أمجد ونديم، يذكر نصر اليوسف أنه يشعر بالفخر لما يحققه ابناه من نجاحات في روسيا. ويلفت نصر إلى أن اسمَي ولديه العربيين كانا يسببان لهما بعض المشاكل في بداية مسيرتهما، لكن تميزهما في العلم والمهنة والمعاملة تمكنا من تحويل العامل المعرقل إلى عامل شهرة. ويضيف أن "أمجد غدا أحد أشهر جراحي التجميل، ونديم هو الطبيب الوحيد من أصول أجنبية الذي يعمل في المعهد العملي المركزي لأبحاث الجراحة في مركز بيتروفسكي".
ويقول نصر الذي درس أيضا في روسيا زمن الاتحاد السوفييتي: "أفتخر بابنَي لما يحققانه من نجاحات غير اعتيادية في روسيا، مع احتفاظهما بالهوية العربية أيضا، وهما لم يخيبا ظني، وأثق أن هذا ليس نهاية المطاف".
تبقى الإشارة إلى أنه، على عكس بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لا تعتبر الجالية العربية في روسيا كبيرة. فيقدر عدد العرب فيها ببضع عشرات الآلاف فقط، ويتركز أغلبهم في العاصمة موسكو.
ويعزو خبراء في شؤون الهجرة هذا العدد المحدود إلى بضعة عوامل، ومنها الإجراءات المعقدة للحصول على حق الإقامة والجنسية، إذ يربط القانون الروسي الحصول على الجنسية بالتنازل عن الجنسية الأصلية، وهو أمر يرفضه العديد من المهاجرين.
وعلاوة على ذلك، لا تتوفر في روسيا بيئة مناسبة لإقامة الأجانب، خاصة وأن أغلبية الروس لا يتقنون اللغة الإنكليزية وتخلو الأماكن العامة من اللافتات بهذه اللغة العالمية.
وما يزيد من عدم إقبال العرب على الهجرة إلى روسيا، هو تدني مستوى الأجور للقوى العاملة غير المؤهلة، وسط منافسة شرسة مع ملايين المهاجرين من الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى، إذ يتقاضى هؤلاء المهاجرون أجورا زهيدة تبلغ نحو 500 - 700 دولار فقط شهريا، وهو معدل أقل كثيرا من دول الاتحاد الأوروبي مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
وبذلك تكاد الجالية العربية في موسكو تقتصر على الطلاب العرب، ومن بقي يعيش أو عاد إليها بعد تخرجه منها، وأغلبهم من سورية وفلسطين، وبعض العمالة، والمتزوجين من الروسيات، وبالطبع، أبناء العائلات المختلطة أمثال أمجد ونديم.
أخيرا، يحث نصر اليوسف الشباب العربي والسوري في المهاجر إلى اغتنام الفرص الموجودة في اغترابهم للتزود بالعلم، باعتباره أحد أهم ركائز إثبات الذات وإيجابية الهوية العربية.