ناي في الريح

28 اغسطس 2015
مقطع من "لحظات عبثية"، نديم كرم / لنان
+ الخط -

إلى عدلي صادق


(..)

الرعشة في الكتابة، أهم عندك من الأورغازم. فالأخير محصور بين اثنين فانيَيْن، أما الأولى فمنذورة ومبذولة لجميع الفانين.


(..)

في بوربو التي لم ترها، ثمّة بشر كالبشر، وطبيعة كالطبيعة، وأمل كالأمل. بوربو المقذوفة كالكرة أقصى الشمال الإسباني. بوربو التي تتنفّس هواءين: فرنسياً ومحلياً. وأنت كنت تنتظر السفر إليها، لكنهم ألغوا الموضوع في آخر لحظة. نسيت هذا مع تعاقب الليل والنهار، لكنّ شيئاً ما بقيَ في نفسك من بوربو التي على الحدود. شيء يأتيك في أحلام غامضة عصية على التذكّر. أنت الذي لطالما مررت أو مكثت أياماً في مدن وبلدات يبدأ اسمها ببور، من بور سعيد وبور توفيق، إلى بوركريستو وبورغوس، ومع ذلك لم تر هذه المدن مرة واحدة في أحلامك. فلمَ بوربو التي لم تطأها؟ أهي أحلام بور؟ أم هو الزمن البائر؟ أم هي سيكولوجيا البوار؟


(..)

نائم، بينما العالم من حولك يجري على النحو التالي: أكاديميّ يتشطّر على بردعة. ذكَرُ مالٍ يحاول في منطاد. رونالدو يلهث دون وصول فوق روسا، لاحتقان وظيفي. أمريكا، تزيل دولاً من الخارطة "كرمى لعيون" نسختها الـ "فوتوكوبي". عُربان شادّون على بعض. شاعر لا يفكر بوضع حد لحياته، بعدما عجز عن وضع حدّ لمطوّلاته. روائي مصدوع، ومسوّداته تؤخّره عن موعد التقدم للجائزة. عالِما فيزياء يتجادلان في مرحاض. دعاة دينيون يأكلون بشراهة سنونو. إلخ.
نائم وكل ثقل الأرض على حجابك الحاجز.


(..)

نعم، في جلّ الأحايين، يشعر الواحد أنّ هذه الكرة، صالحة دائماً للتزحلق.


(..)

سؤال "ما العمل"، لم يكتسب تلك الشهرة الداوية، إلا بعدما خرج من تحت شارب لينين. مع أنه سؤال البشرية التعيسة منذ إنسانها المنتصب، وإلى أن تعود القهقرى إلى أربع. لقد كففتَ ردحاً من الزمن عن مضغ السؤال، تلافياً لشبهة أنك منهم، وخوفاً من الطرد عن بعض الموائد.
متى يتبخّر الزفير اللينيني عن السؤال المسكين؟


(..)

غصّة في روحك وأنت تقرأ عن الـ 72 يوماً التي قضاها ماركس في الجزائر. حتى أنت تفعلها يا رفيق، وقد ظنّناك غير؟


(..)

السادسة صباحاً. جولة بالأقدام بين شعاف جبل كولسيرولا. تعود وقد حميت الشمس. إنها أربع ساعات، استنشقت فيها عبق الجنة، ورأيت من نباتاتها ومن كائناتها ما يكفيك لشهر قادم.
كولسيرولا أخضر حيّ، ولغتك قاحلة.
فمعذرةً عن الخلل.


(..)

متعة أن ترى نور الصباح الأزرق، يملأ حيّزاً من حولك. متعة أن تتحسّس ذرات الضوء الصافي الوادع وهي تدخل عليك من وراء الستارة السوداء. ثم تتنشّط فترفع الستارة وتفتح الشبّاك، وتظل متمدّداً هكذا، تتقصّاه وهو يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى نور أبيض يضوّء ذؤابات الجبل.
استقبال يوم جديد هو ثروتك الحقيقية في هذا العالم.


(..)

التاريخ، كما الجنس، لا يصلح للتأمّل الفلسفي.


(..)

بعيدُك انبثق من وراء غمامتيْن. يجري وتجري أمامه، كقط تعِس.


(..)

وقد كففتَ عن جميع الأماني، الآن تبقّت الأخيرة: هواء إضافي لرئتيك.


(..)

هرموا مثل بغْل، هؤلاء العازفون النحاف. لا يفتأون يعيدون المقطوعة بلا أية تحسينات، مع مزيدٍ من البيرة والماريخوانا، ليس الليل كله بل العمرَ كله. ولا يخطر ببالهم أنهم عمّا قليل سيسقطون عن السلّم الموسيقي.


(..)

إيميل من رافييلا: "رفضوا منحك الإقامة في بيت اللاجئين. الأسبوع القادم سأرجع من نيويورك. أتمنى لك كل الخير".
العرصات!


(..)

غير جرس الكنيسة وتغريد العصافير، لا يُسمع صوت في "باي ديبرون". منذ سكنت هذه المنطقة، اختلف إيقاع حياتك. تعلّمت الإنصات لا السماع. فكل الأصوات التي تأتيك، سواء من الشرفة أو غرفة النوم، خافتة بل واهنة، بما فيها جرس الكنيسة العتيقة القريب. والحق أنها ثلاثة أصوات فحسب، إذا أضفت وقْعَ خُطى الجارة يصلك من السقف.
تتأمّل الحال، طوال شهر، وتقول: مسألة وقت، وأتعوّد. خاصة وأن شريكتك في البيت تعمل بدواميْن.
الآن، مع بداية الشهر الثاني، تراقب نفسك، وهي تستقبل مرضاً جديداً اسمه: نوستالجيا الأصوات. وحالما يتلبّسها المرض، تهرع أنت إلى مترو الأنفاق، لتزور مركز المدينة، وتطفىء نار هذا الحنين.
قديماً، قبل أربعين سنة، كنت تحلم بسكنى على غرار هذه. وكنت تجزم أنها السكنى المثالية لأمثالك.
اليوم، وبعد شهرين لا غير، تقول إنها مملّة، وفي أحيانٍ، لها وحشةُ البرزخ.
حتى أنك، اثناء كتابة هذه الكلمات، تسمع ـ صدفةً ـ صخبَ مقدح، يقتحمك من عند الجار الملاصق، فتفرح.
أيوا يا أخي، سلمت يداك، فالصوت العالي هو أيضاً، عنفوان حياة!


(..)

ومن محبّبات ركوب المترو لديك، خاصة في انتصاف الليالي، ما تراه من بشر متعبين غافين على كراسي المحطات الحجرية، أو على كراسي المترو البلاستيك. إمرأة تغفو ويدها مدلاة بكيس الخبز والمعلّبات. عامل مغربي بلحية إسلامية وعيون حزينة، يغفو بنصف عين، وبالنصف الثاني يراقب الضوء الأحمر على لوحة الباب، كيلا تفوته الطريق.
يا له "الكابيتال" من نظام!


(..)

أنت الذي لم تشبع إلا على طبليّات فقراء، أدخلك صديقك المغترب، مطعماً فارهاً في شمال المدينة. قال: اختر ما تشاء من الكتاب الأحمر. أنت نظرت حولك إلى أربع حورياتٍ يخدمنكما، وقلت: صحن سلطة. صديقك تزعزع، وأنت أصررت. هو أكل سمكاً ونبيذاً وأشياء لا تعرفها، وأنت شرِقت بالسلطة وكأس النبيذ.
حين خرجتما سألته قدّيش كَع فقال 200. أنت قلت فوراً إنك بمبلغ كهذا تحيا ثلاثة شهور، وخلالها تعزمه وتعزم ضيوفاً من غير قارّة، يخرجون مثله مبسوطين.
مشيتما فشممت رائحة تقلية طبيخ بامية تهبّ عليك من قارة بعيدة. حننت إلى طبخ أمك وزوجتك وأمهات وزوجات الجيران، لأنك في فردوس لا تبيع أسواقُه قرنَ بامية محترماً. تريد واحداً محترماً؟ استقدم بذوره من بلادك وازرعْها في البلكون!
بعدها انتبهتَ، فلم تلبِّ أية دعوة، لا من صديق ولا من جالية.
لا يمكن، لأسباب ضميرية أيضاً، أن تفعل.


(..)

يرتاب لو نام طويلاً. هل هو المرض؟ هكذا علّمته الغربة: أن يزهد في أمور كثيرة أولها النوم. لم أجىء لأنام، يقول. كل دقيقة هنا لي، فإن نمتها صارت عليّ. لهذا آخا السهر، ومع الوقت، تحوّل هذا إلى أرق اعتيادي. لم يبتئس، بل قال إنها تمام النعمة، ففي جرح اسمه وطن، لشدّ ما نام، خاصة في ليالي الشتاء، وقد آن أن يعوّض.
آه أيتها البرشلونة! كم أَحبَّ ليلك لأنه غير نهارك. كم أحبَّ نهارك لأنه غير ليلك. كلاهما له نكهته الفريدة وإغواؤه الخاص. وبينهما كم غفا هو غفوة الذئب. حتى إذا مرّت ثلاث سنوات كاملات، نحف الجسد وأصبح ناياً في الريح.


(..)

أنت الآن رخو لا تصلح للمسير. تمشي بجهد وتركب المترو. في التاسعة صباحاً يكون عابقاً بروائح الفردوس. الموظّفات نحو مكاتبهن. النادلات نحو مقاهيهن، وأنت نحو المجهول. تقايض نهارك باحتمال بيتين، وتجول في قلب المدينة دون هدف. تتعب فتفيء إلى حديقة. وهناك تتأمل النوارس والحمام والببغاءات.
تعود مساءً، وقد تماسكت قليلاً، وتفكّر أنّ زمن الغوايات، حقّاً انتهى.
وتكابر كيلا تعترف أن زمنك الشعري يوشك أيضاً.

المساهمون