الانتشار الواسع لمعارض تجارية ومحالّ بيع وصنع الأطراف الاصطناعية بأحجام مختلفة في العراق، مؤشر واضح على أنّ نسبة غير قليلة من سكان هذا البلد هم من الأشخاص ذوي الإعاقة، وتحديداً ممن لديهم بتر.
تلك الصناعة والتجارة في الآن نفسه، بدأت تشهد نمواً في العراق منذ دخوله الحرب ضد إيران عام 1980 طوال ثماني سنوات، لكنّ انتشارها الأكبر جاء بعد عام 2003، الذي شهد غزو الأميركيين للبلاد، وما تلاه من ظهور لمليشيات مسلحة ومنظمات إرهابية، واندلاع للعنف الطائفي، وصولاً إلى احتلال "داعش" الموصل ومعارك تحريرها. كلّ ذلك أدى إلى مقتل وإصابة وإعاقة كثيرين من بينهم أطفال، إذ يقول للدكتور، أحمد عبد الرحمن، مدير منظمة "راع" للأشخاص ذوي الإعاقة، لـ"العربي الجديد"، إنّ عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في العراق حالياً يبلغ نحو مليون و500 ألف، 25 في المائة منهم على الأقل، هم من الأطفال ما دون السادسة عشرة.
اقــرأ أيضاً
حيدر وحيد (11 عاماً) أنفق عليه والداه ما يستطيعان من جهد ووقت ومال لكي يعيدا إليه قدرته على المرح. منذ أكثر من ثلاثة أعوام فقد ساقه في تفجير وقع بالعاصمة بغداد، ليدخل في صدمة نفسية وعصبية تسبب فيها عجزه عن الحركة. والده، وهو تاجر سيارات، يقول لـ"العربي الجديد" إنه أنفق مبلغاً كبيراً لأجل إخراج ولده من أزمته النفسية، مؤكداً أنه نقله إلى خارج البلاد وعالجه في أفضل المصحات النفسية طوال ستة أشهر لكي يخرجه من الصدمة: "لولا إمكاناتي المالية لكانت حال ولدي أسوأ". يشير إلى أنّ حيدر تجاوز مرحلة الصدمة، وبات يعتمد في تحركه على الساق الاصطناعية، بعدما اعتمد طوال فترة على الكرسيّ المدولب.
ليس كلّ الصغار الذين باتت لديهم إعاقة، نجحوا في التغلب على آثارها النفسية. ميثم حسين (13 عاماً)، يقول إنه على الرغم من مرور ستة أعوام على بتر يده في تفجير بسوق شعبي في جنوب العاصمة بغداد، ما زال يعتبر نفسه مختلفاً عن أقرانه. يضيف لـ"العربي الجديد": "لا أستطيع نسيان أني فقدت جزءاً مهماً من جسدي. لم أعد ألعب مع أصدقائي كما كانت الحال في السابق. كلما نظرت إلى كتفي اليمنى وهي متصلة بجزء صغير مما تبقى من يدي أشعر بانزعاج، فألجأ إلى عزلة غرفتي".
يتابع ميثم أنه مؤخراً بدأ يحاول "تعويض الفارق" عن أصدقائه، من خلال انكبابه على الدراسة والمطالعة: "هذا ما نصحني به صديق والدي وهو رسام بارع. أيضاً هو يعلمني الرسم. أصبحت أقضي وقتاً طويلاً في التمرين على رسم الأشكال والوجوه. أعتقد أني أملك موهبة كبيرة في الرسم، وربما سأكون رساماً معروفاً".
قصص كثيرة صنعها العنف في العراق تؤلم من يطلع عليها، ففي هذا البلد كانت حصة الإرهاب والعنف كبيرة جداً، خصوصاً حين سيطر تنظيم "داعش" على مساحة تبلغ ثلث البلاد في صيف 2014. "داعش" الذي ترك آثاراً مرعبة بين السكان حين فرض عليهم سطوته كان يعاقب بعنف من يخالفون أوامره، وكان بتر الأطراف من بين هذه العقوبات، لكنّ ما تعرض له سكان هذه المناطق مع انطلاق معارك تحرير مدنهم كان أخطر. فهناك، فضلاً عن القتلى الذين سقطوا بالرمي العشوائي ودفنوا، جثث ما زالت تحت أنقاض المباني. ومن جراء القصف الكثيف، قتل وأصيب عشرات الآلاف، ومن الإصابات ما أدى إلى إعاقات مختلفة.
مدينة الموصل شمالي البلاد، التي كانت تعرف بكونها عاصمة لدولة "داعش" تحولت إلى أطلال، في أغلب مناطقها، وخصوصاً الجانب الأيمن منها، فالدمار حلّ في جميع أحيائها بسبب تمركز عناصر التنظيم فيها لكون أزقتها ضيقة وتسمح لهم بالحركة والمناورة. وفي يوليو/ تموز 2017، أعلن رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي تحرير هذه المدينة بالكامل، وكانت نتائج تحريرها قاسية على السكان، إذ تضررت أغلب المساكن، وانهارت البنى التحتية، من جراء المعارك التي شهدتها البلاد، لكنّ الأكثر قسوة عند السكان المدنيين كان عدد القتلى والأشخاص ذوي الإعاقة بين صفوفهم.
لينا محمد قاسم طفلة مولودة عام 2010 عاشت، وما زالت، كارثة لا يحتملها رجال بالغون، بحسب ما يقول والدها، ففي قصف عنيف على حيّهم في الموصل، هدم البيت وقتلت والدتها وشقيقاتها الثلاث وجدّتها وعمتها، أما لينا فقد أصيبت بشظايا في عدد من مناطق جسدها، أبرزها في ساقها لتخضع لاحقاً إلى عمليات جراحية، نجح الأطباء من خلالها في الحفاظ على ساقها، لكن مع إعاقة حركية فيها.
لينا التي فقدت حنان أمها يتكفل والدها برعايتها، وهما يسكنان حالياً في بيت أحد أقاربهما، الذي تعرض لأضرار قليلة في المعارك التي شهدتها الموصل. يقول لـ"العربي الجديد": "لم يبقَ لي من عائلتي سوى لينا". تقول لينا لـ"العربي الجديد" إنها تتذكر أمها وشقيقاتها جيداً، وتشتاق أيضاً إلى حضن جدتها، لكنّ والدها يقول إنه يبذل قصارى جهده كي ينسيها المشاهد المؤلمة التي عاشتها تحت القصف، موضحاً: "إنه وقت رعب مستمر. لم يكن لدينا أدنى شك بأننا ميتون، وكنا بانتظار تلك اللحظة. أصوات الصواريخ والطائرات والرصاص كانت كلّ ما نسمع. كانت الأصوات قوية فأنستنا جوعنا بعد نفاد من ما نملك من غذاء قليل". يضيف: "كنا نلهج بذكر الله. وقلوبنا تخفق، لكنّ صاروخاً حوّل بيتنا إلى حطام. بعد حين، كنت أسمع أصوات صراخ أطفال ونساء ورجال، لم أميز من هم، ولم أتمكن من الحراك. لم أكن أشعر بألم لكنّي شعرت بدوار، هذا كل ما أتذكره".
اقــرأ أيضاً
بعد يوم كامل أفاق محمد قاسم والد لينا، على أصوات رجال تأكد أنّهم جنود من القوات العراقية يحاولون إنقاذ من بقي حياً إثر المعركة التي تحرر بفعلها حيهم، وكانت أصوات المعارك مسموعة وإن كانت بعيدة عن حي الزنجيلي الذي يقطن فيه. يقول: "انتشلوني من تحت ركام السقف، وما إن انتشلوني أغمي عليّ مرة أخرى". يقول: "علمت أنني وابنتي لينا فقط من نجى من الموت بين أفراد عائلتنا. لم أعر اهتماماً للكسور التي تعرضتُ لها، وقد عالجتها بمرور الوقت، همّي كان فقط لينا. حاولت -وما زلت - جاهداً أن أنسيها لحظات الموت. لكنها ما زالت تتذكر بألم ورعب ما جرى لنا. أقنعتها بأنها ستتحسن إذا لعبت كثيراً مع الأطفال. أحاول بذلك أن أجعلها تتغلب على حالتها النفسية السيئة".
تلك الصناعة والتجارة في الآن نفسه، بدأت تشهد نمواً في العراق منذ دخوله الحرب ضد إيران عام 1980 طوال ثماني سنوات، لكنّ انتشارها الأكبر جاء بعد عام 2003، الذي شهد غزو الأميركيين للبلاد، وما تلاه من ظهور لمليشيات مسلحة ومنظمات إرهابية، واندلاع للعنف الطائفي، وصولاً إلى احتلال "داعش" الموصل ومعارك تحريرها. كلّ ذلك أدى إلى مقتل وإصابة وإعاقة كثيرين من بينهم أطفال، إذ يقول للدكتور، أحمد عبد الرحمن، مدير منظمة "راع" للأشخاص ذوي الإعاقة، لـ"العربي الجديد"، إنّ عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في العراق حالياً يبلغ نحو مليون و500 ألف، 25 في المائة منهم على الأقل، هم من الأطفال ما دون السادسة عشرة.
حيدر وحيد (11 عاماً) أنفق عليه والداه ما يستطيعان من جهد ووقت ومال لكي يعيدا إليه قدرته على المرح. منذ أكثر من ثلاثة أعوام فقد ساقه في تفجير وقع بالعاصمة بغداد، ليدخل في صدمة نفسية وعصبية تسبب فيها عجزه عن الحركة. والده، وهو تاجر سيارات، يقول لـ"العربي الجديد" إنه أنفق مبلغاً كبيراً لأجل إخراج ولده من أزمته النفسية، مؤكداً أنه نقله إلى خارج البلاد وعالجه في أفضل المصحات النفسية طوال ستة أشهر لكي يخرجه من الصدمة: "لولا إمكاناتي المالية لكانت حال ولدي أسوأ". يشير إلى أنّ حيدر تجاوز مرحلة الصدمة، وبات يعتمد في تحركه على الساق الاصطناعية، بعدما اعتمد طوال فترة على الكرسيّ المدولب.
ليس كلّ الصغار الذين باتت لديهم إعاقة، نجحوا في التغلب على آثارها النفسية. ميثم حسين (13 عاماً)، يقول إنه على الرغم من مرور ستة أعوام على بتر يده في تفجير بسوق شعبي في جنوب العاصمة بغداد، ما زال يعتبر نفسه مختلفاً عن أقرانه. يضيف لـ"العربي الجديد": "لا أستطيع نسيان أني فقدت جزءاً مهماً من جسدي. لم أعد ألعب مع أصدقائي كما كانت الحال في السابق. كلما نظرت إلى كتفي اليمنى وهي متصلة بجزء صغير مما تبقى من يدي أشعر بانزعاج، فألجأ إلى عزلة غرفتي".
يتابع ميثم أنه مؤخراً بدأ يحاول "تعويض الفارق" عن أصدقائه، من خلال انكبابه على الدراسة والمطالعة: "هذا ما نصحني به صديق والدي وهو رسام بارع. أيضاً هو يعلمني الرسم. أصبحت أقضي وقتاً طويلاً في التمرين على رسم الأشكال والوجوه. أعتقد أني أملك موهبة كبيرة في الرسم، وربما سأكون رساماً معروفاً".
قصص كثيرة صنعها العنف في العراق تؤلم من يطلع عليها، ففي هذا البلد كانت حصة الإرهاب والعنف كبيرة جداً، خصوصاً حين سيطر تنظيم "داعش" على مساحة تبلغ ثلث البلاد في صيف 2014. "داعش" الذي ترك آثاراً مرعبة بين السكان حين فرض عليهم سطوته كان يعاقب بعنف من يخالفون أوامره، وكان بتر الأطراف من بين هذه العقوبات، لكنّ ما تعرض له سكان هذه المناطق مع انطلاق معارك تحرير مدنهم كان أخطر. فهناك، فضلاً عن القتلى الذين سقطوا بالرمي العشوائي ودفنوا، جثث ما زالت تحت أنقاض المباني. ومن جراء القصف الكثيف، قتل وأصيب عشرات الآلاف، ومن الإصابات ما أدى إلى إعاقات مختلفة.
مدينة الموصل شمالي البلاد، التي كانت تعرف بكونها عاصمة لدولة "داعش" تحولت إلى أطلال، في أغلب مناطقها، وخصوصاً الجانب الأيمن منها، فالدمار حلّ في جميع أحيائها بسبب تمركز عناصر التنظيم فيها لكون أزقتها ضيقة وتسمح لهم بالحركة والمناورة. وفي يوليو/ تموز 2017، أعلن رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي تحرير هذه المدينة بالكامل، وكانت نتائج تحريرها قاسية على السكان، إذ تضررت أغلب المساكن، وانهارت البنى التحتية، من جراء المعارك التي شهدتها البلاد، لكنّ الأكثر قسوة عند السكان المدنيين كان عدد القتلى والأشخاص ذوي الإعاقة بين صفوفهم.
لينا محمد قاسم طفلة مولودة عام 2010 عاشت، وما زالت، كارثة لا يحتملها رجال بالغون، بحسب ما يقول والدها، ففي قصف عنيف على حيّهم في الموصل، هدم البيت وقتلت والدتها وشقيقاتها الثلاث وجدّتها وعمتها، أما لينا فقد أصيبت بشظايا في عدد من مناطق جسدها، أبرزها في ساقها لتخضع لاحقاً إلى عمليات جراحية، نجح الأطباء من خلالها في الحفاظ على ساقها، لكن مع إعاقة حركية فيها.
لينا التي فقدت حنان أمها يتكفل والدها برعايتها، وهما يسكنان حالياً في بيت أحد أقاربهما، الذي تعرض لأضرار قليلة في المعارك التي شهدتها الموصل. يقول لـ"العربي الجديد": "لم يبقَ لي من عائلتي سوى لينا". تقول لينا لـ"العربي الجديد" إنها تتذكر أمها وشقيقاتها جيداً، وتشتاق أيضاً إلى حضن جدتها، لكنّ والدها يقول إنه يبذل قصارى جهده كي ينسيها المشاهد المؤلمة التي عاشتها تحت القصف، موضحاً: "إنه وقت رعب مستمر. لم يكن لدينا أدنى شك بأننا ميتون، وكنا بانتظار تلك اللحظة. أصوات الصواريخ والطائرات والرصاص كانت كلّ ما نسمع. كانت الأصوات قوية فأنستنا جوعنا بعد نفاد من ما نملك من غذاء قليل". يضيف: "كنا نلهج بذكر الله. وقلوبنا تخفق، لكنّ صاروخاً حوّل بيتنا إلى حطام. بعد حين، كنت أسمع أصوات صراخ أطفال ونساء ورجال، لم أميز من هم، ولم أتمكن من الحراك. لم أكن أشعر بألم لكنّي شعرت بدوار، هذا كل ما أتذكره".
بعد يوم كامل أفاق محمد قاسم والد لينا، على أصوات رجال تأكد أنّهم جنود من القوات العراقية يحاولون إنقاذ من بقي حياً إثر المعركة التي تحرر بفعلها حيهم، وكانت أصوات المعارك مسموعة وإن كانت بعيدة عن حي الزنجيلي الذي يقطن فيه. يقول: "انتشلوني من تحت ركام السقف، وما إن انتشلوني أغمي عليّ مرة أخرى". يقول: "علمت أنني وابنتي لينا فقط من نجى من الموت بين أفراد عائلتنا. لم أعر اهتماماً للكسور التي تعرضتُ لها، وقد عالجتها بمرور الوقت، همّي كان فقط لينا. حاولت -وما زلت - جاهداً أن أنسيها لحظات الموت. لكنها ما زالت تتذكر بألم ورعب ما جرى لنا. أقنعتها بأنها ستتحسن إذا لعبت كثيراً مع الأطفال. أحاول بذلك أن أجعلها تتغلب على حالتها النفسية السيئة".