موت جدّي

19 سبتمبر 2014
Getty
+ الخط -
كان يستقبلنا بشاربين مفتولين، فنهلّل صارخين: "شو في بالجيبة؟". وغالباً ما كانت "الجيبة" تمطر علينا بالأطايب والسّكاكر الملوّنة، مقابل قبلة ووعد باللعب بهدوء وعدم قلب المنزل رأسًا على عقب. كان يخبرنا جدّي عن حبيبته الأولى، "هيفاء" كان اسمها. فأبتسم في سرّي، ليخفض صوته كي لا تسمعه جدّتي، التي بقيت تغار عليه حتّى نفسه الأخير. ويروح يدندن مقطعًا من أغنية للفنان مارسيل خليفة، بصوته العريض: "وهيفاءُ في الدار، في لوحة في الجدار.."، وهنا روح أنا أبتسم بخجل! كنتُ أراه كيف كان يصلح حذاءً قديمًا. حين يضع المسامير في فمه، فنظنّ أنّه ابتلعها، ونتعجّب من السحر عندما يعود فيخرجها. ترتسم ابتسامة على شفتيه المخبأتين وراء الشاربين الكثيفين.
كنّا نتحلق حوله، نحن أحفاده، منتظرين أن يروي لنا قصصه ورحلات عمله إلى فلسطين، تلك الأرض التي حقّق لنا حلمنا بأن نذهب إليها ونزورها، وإن عبر كلماته القليلة فقط.
كان يخبرنا الكثير عن فلسطين، كيف كان يزرع أرض الليمون، وكيف كان يشذّب الأشجار ويعتني بتفاصيلها، فتعطيه أكواز الصنوبر خيرها، ليعود حافيًا بعد أسابيع عدّة، مفعمًا برائحة التراب، مكرّمًا بيته بكلّ ما استطاع. أيضًا كان يجلسنا في حضنه لإقناعنا بإكمال صحون الطعام وأكل كلّ ما فيها. وعندما كنّا نخلف وعدنا بالبقاء هادئين فيما نلعب، يبدأ بالصراخ في وجوهنا، لكن بحبّ "انسطوا يا ولاد.."، فنتكوّم من حوله ليخبرنا عن حنان "مسعودة"، البغل الذي كان يملكه، وإطاعته له. لا أنسى كيف كان يترك جدّي ضيوف العيد ويلحق بنا إلى الساحة الكبيرة أمام المنزل، ويعلّمنا كيف نشعل المفرقعات النارية بخفّة شاب لم تنهكه الحياة. فيطمئنّ إلى أنّنا سعداء، ويرحل بهدوء. من غيره كان يخبرنا حكايات عن يدين تشقّقتا تعبًا وقهرًا. كيف نزل إلى العاصمة بيروت ليعمل، وكان لا يزال في عمر الثامنة، بعدما ماتت والدته وتزوّج والده. نزح إلى المدينة ليفصّل القوارير الزجاجية عن التنك، فتنجرح يده. وحين يتذكّر يروح يفرك يديه بأسى ويبتسم.
لم أقدر على البكاء يوم رحل. أسمعه يسألني في كلّ زيارة عن آخر كتاب قرأته، وعمّا تدور أحداثه، على رغم أنّه لم يكن يعرف من القراءة والكتابة سوى كلمات قليلة. فأخبره عن "شيح بريح" لسلام الراسي وعن المواقف المضحكة التي يسردها الكاتب. المواقف التي تشبه قصصه، هو جدّي. المشهد يتكرّر.. أنا وابنة خالتي في ضيافة بيت جدّي ليومين. الثرثرة حتّى نسمات الصباح الأولى لا تزال كما هي، في غرفة الجلوس نفسها التي اتّخذناها فراشًا لنا. صحيح أنّ المواضيع اختلفت، لكنّنا لا زلنا نتشارك الأخبار والأسرار والطموحات.
تباغتنا حالة من الجوع المفاجئ في الليل، فتبدأ رحلة البحث عمّا تبقّى من عشاء أو غداء. نتقاسم كاسة من الـ"كاستارد" نُسكت بها معدتينا الفارغتين. يعترينا خوف من سرعة الحركة، آملين ألا نوقظ أهل المنزل وينكشف سرّنا. استعضنا بكوب من "النيسكافيه" عن كوب الحليب الساخن، طوال 15 عامًا خلت، لنغفو من فرط تعبنا، من مغامرات خضناها، طوال أجيال وعقود، في ليلة واحدة. نشعر بفارق وحيد في الزيارة الأخيرة، أنّنا لن نستيقظ على خطوات جدّي في الخامسة فجرًا، يُعِدُّ أدوات الزراعة، من منكوش ومنجل ومطرقة، معلنًا استعداده للذهاب إلى عمله.. لن نستفيق على خطوات جدّتي، في أوّل لحظات غفوتنا... تُعدُّ "الزوّادة" لرحلة العمل الشاقة. ترك جدّي فراغًا في رحيله الهادئ، تركني أنا.. "هيفاء".
المساهمون