من أكثر الأسئلة التي تُطرح في مقتبل العمر وحتى في مرحلة الطفولة هو سؤال: "ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر"؟ يُسمع هذا السؤال حتى قبل إدراك ضرورة امتهان مهنة ما يومًا، أو قبل حتى أن نفَهم ماذا تعني كلمة "مهنة". أبرز المهن التي يشجِّع الأهل أولادهم عليها في صغرهم هي مهنة الطبيب، المهندس، المحامي، الطّيار... إلخ، بغض النّظر عن الكلفة التي ستكون أول عائق لاحقًا أمام الأهل أنفسهم والأولاد بطبيعة لحال.
بعيدًا عن هذه المهن التي تكاد تكون حلم كلّ أمّ وأبّ، هناك مهن أخرى أقرب إلى الواقع واحتياجاته وإن كانت أبعد عن تلك الأحلام. مهن اختارتها بعض النِّساء في جنوب لبنان بعد أن فهمن حاجة السُّوق لها، وحاجتهن لمردودها بعيدًا عن مطاردة أحلام ستكون مضيعة للوقت ومقبرة للآمال في ظل انعدام العديد من مقومات تحقيق ما يفترض أن يكون مسلّمات.
بعض المهن المستحدثة يسيطر عليها الحزبين الأبرزين في جنوب لبنان؛ "حزب الله" و"حركة أمل"، وحيثما يوجد الأول سيتبعه بفارق زمني قصير الثاني والعكس صحيح؛ فهذا جزء من ضمان وجودهما ومنافستهما، وضمان وجود مؤيدين لأي منهما في هذه المجالات/المهن التي لا مفرّ منها هو ضمان عدم احتكار الطَّرف الآخر لها. أبرز هذه المهن: القراءة في مجالس العزاء وغسل الموتى.
القراءة في مجلس العزاء
تقام مجالس العزاء في القرى الشيعية في الجنوب اللبناني بأكثر من مناسبة، وأحيانًا كثيرة يكون المجلس هو بحد ذاته المناسبة. طبعًا لا تكون هذه المجالس مختلطة، ولذلك لزم الأمر أن يكون هناك قرَّاء لمجالس الرجال وقارئات لمجالس النِّساء. أُولى وأهم المناسبات هي ذكرى استشهاد الإمام الحسين التي تمتدّ من الأول من شهر محرّم حتى العاشر منه؛ حيث تقام مجالس عزاء في المنازل والحسينيّات بشكلٍ يومٍّي وبأوقات متنوِّعة من اليوم، فيتم إجمالًا توزيع المجالس التي تُحيا في أحد المنازل صباحًا، وتلك التي تُحيا في الحسينية مساءً.
تعتبر هذه الذكرى باب رزق واسعاً للقرّاء ذكورًا وإناثًا، خصوصًا أنَّ مجالس القراءة لا تتوقف عند العاشر، إنًما فقط يقل عددها اليومي وتستمر لغاية ذكرى الأربعين. مناسبة أخرى تتم فيها إقامة مجالس العزاء هي عند الموت وبشكل يومي منذ يوم الوفاة وحتى اليوم السّابع، ثم في الذِّكرى الأربعين، ثم في الذِّكرى السَّنوية. إضافة إلى إقامة مجلس العزاء في أي يوم من السَّنة، وفي أي منزل قرَّر أصحابه ذلك إحياءً لذكرى "أهل البيت".
الشَّرط الأساسي لاختيار القارئة هو صوتها، يليه مباشرة أو يتنافس معه قدرة القارئة على إبكاء النِّساء، تعليق مثل: "صوتها جميل لكنَّها لم تُبكِ الحضور" هو تعليق شائع، كعكسه: "هاتوا فلانة، فلقد أبكتنا كثيرًا في المرة السّابقة في مجلس فلانة الفلانية". وكلّما أبكت كلّما اشتهرت، وكلما اشتهرت زاد الطلب عليها وزادت أجرتها. طبعًا، المؤيدون لحزب الله سيأتون بقارئة تابعة لحزب الله، والأمر نفسه يتم مع المؤيدين لحركة أمل، وبإمكان المتابعين أن يحزروا ما إذا كانت القارئة تابعة للحزب أم الحركة من خلال الأداء. والقلة الذين لا يؤيدون لا هذا الحزب ولا ذاك في الأغلب يكتفون بصوت الشيخ عبد الباسط يتلو آيات من القرآن.
غسل الموتى
من الصَّعب تصوّر أن في مسألة غسل الموتى تحقيقًا للذّات. لكن من الصَّعب أيضًا تصوّر وجود ميّت من دون غسيل، خصوصًا أن طقس حرق الموتى غير معتمد في الديانات المتّبعة في لبنان وفي العالم العربي.
وفيما كانت هذه المهنة في الجنوب متوارثة، وعدد المُمارِسات لها لا يتعدَّين عدد أصابع اليد، معروفات بالأسماء ويُطلب مجيئهنَّ من قرية إلى أخرى عند أي وفاة، وفي أغلب الأحيان كنَّ سيدات كبيرات في السِّن، إلا أنَّ الأمر اختلف الآن؛ فأصبح هناك نتيجة الضَّرورة دورات تُدرِّب وتعلِّم الفتيات والنساء المهتمَّات كيفية إتقان طريقة غسل الموتى على الأصول الإسلامية والشيعية تحديدًا، ويمكن القول أصول "حزب الله" و"حركة أمل" شبه المحتكرين لهذا المجال. والدَّورات تشمل: النّية، كيفية الغسيل وأنواعه، والتعامل مع جسد الميت بحال وجود دماء، التحنيط، التكفين، واحترام الميت وجسده.
لا يمكن اعتبار غسل الموتى مهنة عند جميع النساء اللواتي يمارسنها. فبعضهنَّ يقمن بهذا العمل دون أي أجر في المقابل، إنّما بدأن بمزاولة الغسل بسبب الضَّرورة الملحَّة التي تتطلّب سيدة للقيام بهذا الأمر، ولاحقًا من أجل الثواب وللحصول على غفران الله لذنوبهن. كما وتوسعت مهنٍ نسائية أخرى بعيدًا عن الأحزاب وقربيًا من المنازل مثل مهنة: الطبخ عند الطلب" والتزيين عند الطلب.
الطبخ عند الطلب
بالرّغم من فخر النِّساء في جنوب لبنان بطريقة طبخهنّ وخلطاتهنّ وتتبيلاتهنّ، إلّا ان ظروف الحياة الصّعبة من جهة، وزيادة الوعي من جهة أخرى؛ أدّيا إلى توجه المرأة الجنوبية نحو سوق العمل كغيرها من النساء. فاقتنصت بعض النِّسوة هذه الفرصة ليمارسن مهنة تعتمد على غياب نساء أخريات عن مطابخهن: مهنة الطبخ عند الطلب.
يكفي في البداية أن تجيد السيدة الطبخ، وأن يكون لديها، إلى جانب مطبخ مجهّز بفرنٍ وثلاجة، صديقتان عاملتان لتبدأ بممارسة المهنة. هذه الشروط ستتطور لاحقًا، فالمطبخ سيكبر ليضم ثلاجة كبيرة وفرنا مستقلَّين عن ثلاجة وفرن العائلة، والصديقتان ستصبحان عشراً أو أكثر، ولن يكون هذا صعبًا بوجود صفحة خاصة على الفيسبوك واسم لـ "الشركة" المنزليَّة الصَّغيرة، فيتوسَّع العمل وإن بقي منزليًّا، ليشمل تأمين طعام لمناسبات منزلية ووضع بعض الأصناف المثلجة في السوبرماركت.
التزيين عند الطلب
هذه ليست خدمة جديدة. ففي كلِّ قرية توجد نساء وفي كلِّ قرية توجد تلك المرأة التي يقلن إن "يدها خفيفة". تحضر إلى منزل إحداهنّ عند الطلب، تعرف مكان كل الأشياء التي تحتاجها في المطبخ، فتغلي السّكر المخلوط بالليمون حتى يتحوَّل إلى عجينة ذهبية، ترفعها عن النار وتدعكها بيديها حتى تلين وتبرد وتصبح جاهز لإزالة الشعر الزائد.
هذه الخدمة تحولت إلى خدمات تشمل صبغ وقصّ الشّعر، تقليم وتلوين الأظافر والماكياج، بالإضافة طبعًا إلى نزع الحواجب وإزالة الشعر الزائد؛ إنما هذه المرَّة بواسطة خلطة شمع جاهزة وماكينة تسخين خاصة بها. تحضر المزيّنة مع كامل عدَّتها بناءً على موعد سابق تعرف من خلاله عدد السيدات الموجودات واللواتي يحتجن خدماتها في هذه الجلسة. هذه الخدمات المنزلية تتيح للمُزيِّنة أن تكون حرة بوقتها، وتخفف من تحمل كلفة إيجار صالون وإن كان لديها في معظم الأوقات غرفة في منزلها مخصصة للزبونات اللواتي يفضِّلن أحيانًا التزيُّن عند المزيّنة.
بعيدًا عن مسألة تحقيق الذات، التي أصلًا تختلف شروطها بين شخص وآخر؛ حيث للبعض قد يعني الإنتاج المادي، بينما يعني لبعض آخر ممارسة عمل يحبه؛ الكل يسعى منذ أن يستيقظ لتأمين طعام الإفطار إن كان من خلال تحقيق الذات أو من دونه. إذ يبدو من المستحيل تحقيق هذه الذات والبطون خاوية. كما يبدو أن بعض النساء أدركن كيف يؤمّنَّ طعام الإفطار والوجبات الأخرى من خلال خلق مهن جديدة فرضت وجودها طبيعة وتقاليد واحتياجات مجتمع وبالوقت نفسه واقعية وبراغماتية شريحة من النساء اللواتي عرفن كيف يتخلّين عن الأحلام، ويرسمن مهنا أكثر واقعية، ملموسة النتائج وسهلة التحقّق وقد تصبح أحلام المستقبل الجديدة.