من واقع التعليم في الوطن العربي

25 سبتمبر 2018

طالب في امتحان القبول الجامعي في مدرسة بصنعاء (29/8/2015/الأناضول)

+ الخط -
تفيد تقارير دولية، صدرت في السنوات القليلة المنقضية، بأن أهم العوامل التي تفسر المستوى الحالي لمردودية النظم التربوية في بعض الدول العربية، مقارنة بمجموعات أخرى شبيهة، مثل دول أميركا اللاتينية وبعض دول آسيا، هي مدى اعتماد قواعد الحوكمة، وخصوصا الشفافية والتشاركية والمساءلة، ومدى تبني رؤى واضحة ومعايير دقيقة، تهدف إلى تجويد الفعل التربوي، وترسيخ ثقافة التقويم والمتابعة، باعتبارها ثقافة مؤسساتية، تضمن تلك النظم وفاعليتها. ومن ذلك تقرير التنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "الطريق غير المسلوك"(إصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا البنك الدولي للإنشاء والتعمير)، وتقرير إحصائيات معهد اليونسكو للإحصاء، وقاعدة بيانات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، وكراسات مرصد "ألكسو" (أبريل 2018). تجمع هذه التقارير الجادّة، وغيرها، على أن النتائج المحققة للارتقاء إلى نظم تعليمية ذات جودة ومردودية عاليتين في أغلب البلاد العربية تبقى دون مستوى حجم الإنفاق المرتفع، والمخصصات الوطنية التي توجهها هذه الدول إلى قطاع التربية والتعليم.

تورد هذه التقارير مؤشرات حجم الإنفاق عن التعليم في الوطن العربي، والنتائج التي كان يمكن أن تتحقق مقابل هذا الإنفاق: إجمالا يعتبر متوسط حجم الإنفاق على التعليم في الدول العربية بين العامين 1970 و2014 عاليا نسبيا، إذ بلغ في مجمله 4.27% من الناتج المحلي الإجمالي بالمقارنة مع معدل إنفاق في حدود 3.474% بالنسبة إلى الدول النامية، و4.297% بالنسبة إلى مجموعة دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية و5.002% يالنسبة إلى مجموعة دول الاتحاد الأوروبي. وقد بلغ مستوى الإنفاق العام على التعليم خلال الفترة نفسها 13.18% من الموازنات العامة للدول العربية، بالمقارنة مع معدل إنفاق في حدود 15.66% بالنسبة إلى الدول النامية، و14.13% بالنسبة إلى كل دول العالم و12.28 % بالنسبة إلى مجموعة دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، و11.37% بالنسبة إلى مجموعة دول الاتحاد الأوروبي.
توضح هذه المؤشرات أن الدول العربية شهدت بين 1994و2014 مقارنة بالفترة 2010-2014، وبكامل الفترة 1970-2014، أعلى معدلات الإنفاق على التعليم من الناتج المحلي. وباعتماد ما أنفق عن التعليم في العام 2014، فإن الإحصائيات تفيد بأن الدول العربية مجتمعة قد أنفقت فيه 4.3% من ناتجها المحلي الإجمالي على التعليم، أي ما يعادل 124.27 مليار دولار، فيما أنفقت مجموعة دول الاتحاد الأوروبي في السنة نفسها 5.1% من ناتجها المحلي الإجمالي، أي ما يعادل 947.07 مليار دولار. وبذلك تكون نسبة الإنفاق في الدول العربية تساوي 13.1% (أي من 7.6) من مجموع ما أنفق عليه في الاتحاد الأوروبي في العام 2014. أما بخصوص نصيب الفرد الواحد (لمجموع السكان) من الإنفاق الإجمالي على التعليم فقد بلغ نصيب الفرد في الدول العربية ما يعادل 323.32 دولارا مقابل 1863.88 دولارا للفرد في الاتحاد الأوروبي خلال العام نفسه، وبذلك تكون الدول الأوروبية تنفق على الفرد الواحد حوالي ستة أضعاف ما تنفقه مجموعة الدول العربية.
وبعيدا عن المقارنات والإحصاءات والنسب، فإن أسئلة ضرورية تطرح نفسها بكل إلحاح عند مباشرة تقييم الجدوى، أو العائد من الإنفاق على التعليم في الدول العربية، ومن أهم هذه الأسئلة: ما الذي تحقق في مجال ديمقراطية التعليم وتكافؤ الفرص التعليمية؟ وما الذي يعني تحديدا توفر التعليم لجميع الفئات دون استثناء الذي يندرج تحت مفهوم التعليم الجامع؟ ما هو مستوى مخرجات التعليم الذي تحقق في مقابل هذا الإنفاق في الدول العربية؟ وتقودنا هذه الإجابة على هذا السؤال إلى تحديد نسبة الهدر، سواء بسبب الرسوب أو الانقطاع عن التعليم. وكما تقودنا إلى البحث في الكفاءة الداخلية والخارجية للنظم التعليمية العربية.
وأخيرا، هل تحققت الأهداف التربوية التي تم وصفها وترجمتها عن طريق البرامج والمناهج الدراسية؟ توصلنا هذه القراءة الإحصائية التحليلية لواقع التعليم في البلاد العربية لسنوات مضت، بكل أسف، إلى ما تشير إليه الإحصاءات الخاصة بالسنة الحالية والواردة في إحصائيات اليونسكو للإحصاء وكراسات مرصد "ألكسو" للتربية العربية في عددها الجديد، حيث تبين جميعها أن 14.67% من الأطفال العرب في سن الالتحاق بالتعليم الابتدائي في جميع الدول العربية يوجدون خارج أسوار المدارس، في حين لا تتجاوز هذه النسبة 1.49% في دول الاتحاد الأوروبي، و3.8% في دول منطقة التعاون والتنمية الاقتصادية.

وبهذا يتجاوز إجمالي الأطفال العرب الذين لم يذهبوا إلى المدارس سبعة ملايين طفل في مقابل 0.4 مليون طفل في دول الاتحاد الأوروبي. لقد حرم هؤلاء الأطفال العرب من حق كوني، وهو الحق في التعليم، والوضع ينبئ بمزيد من التفاقم مستقبلا، نتيجة ما تعرفه بعض الدول العربية من حروب ونزاعات، ومن عدم استقرار سياسي واقتصادي.
المؤسف كذلك، وعلى الرغم من التحفظات المسجلة بخصوص الاختبارات الدولية، فإن هذه الاختبارات تمنح جملة من المؤشرات التي يمكن أن تساعد على تحديد مستوى التعليم وفاعلية المناهج المطبقة، وطرق التدريس المعتمدة، وكذلك حول مدى تمكّن المعلمين في مسار اكتساب معارفهم وبناء مهاراتهم. وقد كانت لدول عربية مشاركات في هذه الاختبارات، اتسمت، في معظمها، بتواضع النتائج المسجلة، وهو ما يمكن أن يعكس ضعفا في مكتسبات التلاميذ في مختلف المجالات، حيث بقيت النتائج في حدود المستوى الأدنى للتملك أو دونه، ففي اختبار بيزا لعام 2015 شاركت 72 دولة، منها عدة دول عربية، لكن هذه الدول جاءت في آخر الترتيب في أغلب المجالات.
يدعو هذا المشهد القاتم لواقع التعليم في البلاد العربية إلى مزيد من إمعان النظر في مستقبل التعليم خيارا تنمويا حقيقيا، وذلك عبر رسم رؤى استشرافية واضحة، وسياسات مدروسة لتطور هذا القطاع الاستراتيجي، تفضي إلى إيجاد التوازن المأمول بين ارتفاع المخصصات المالية المرصودة وبين تحقيق أهداف الإنصاف والعدالة التربوية وتوفير تعليم جيد للجميع، يضمن للخريجي الحد الأدنى المطلوب من المعارف والمهارات والكفاءات، ومنحهم فرصة الاندماج في الاقتصاد والمجتمع.
الملاحظ أخيرا أن النصيب الأوفر مما ينفق عن التعليم في الوطن العربي لا يخصّص لتطوير جودة التعليم ودعم الإنصاف وتكافؤ الفرص، من خلال توجيهه إلى التنمية التربوية، بل ينفق على شؤون التسيير والتصرف وتأجير العمالة التربوية.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي