20 نوفمبر 2024
من بروكسل إلى لاهور
ما الفرق بين هجمات بروكسل ولاهور وقبلهما أنقرة؟ المجرم واحد، سواء تعلق الأمر بالتطرّف الديني أو العرقي أو الطائفي أو الأيديولوجي، والضحية هي الضحية نفسها في كل العمليات الإرهابية، مواطنون أبرياء. لكن، هناك فرق آخر. إنه الذي تصنعه ردود الأفعال، كل مرة، تقع فيها مثل هذه الجرائم.
في تفجيرات بروكسل، قتل نحو 31 شخصاً، وأودت تفجيرات لاهور بحياة 65 ضحية، أغلبهم من النساء والأطفال. لكن ردود الأفعال في العالم جاءت مختلفة ومتفاوتة تجاه المأساتين. ففيما اهتز العالم الغربي لأحداث بروكسل، وتبعته في ذلك باقي دول العالم التي دان زعماؤها ما حدث في بلجيكا، وخصصت له وسائل الإعلام الغربية المؤثرة في صناعة القرار العالمي ساعاتٍ بل وأياماً من البث المباشر، والمتابعة الدقيقة، لكشف بشاعة الجريمة، والبحث في تشعب خيوط منفذيها ومدبريها.. في مقابل كل ردود الأفعال القوية هذه، المفروضة أمام كل عمل إرهابيٍّ تمقته البشرية، تمر أخبار تفجيرات لاهور وأنقرة في شريط الأخبار القصيرة أسفل شاشات كبريات القنوات العالمية التي حوّلت الفضاءات العامة في بروكسل إلى استديوهات مفتوحة منذ وقوع تفجيراتها الإجرامية.
وليس الإعلام الغربي وحده من يتعامل مع القتل البشع بمكيالين، بل حتى الساسة، ومنهم ساسة الدول غير الغربية الذين لا يستخدمون اللغة نفسها في إدانة الأعمال الإجرامية، كما لو أن للحياة والموت معايير لتحديد قيمتها حسب الموقع الجغرافي والانتماء العرقي.
هذا إذا صدرت فعلاً مثل هذه الإدانات تجاه ما يقع يومياً من مآسٍ في دول غير غربية. فكم من ملكٍ ورئيس عربي، مثلاً، دان تفجيرات لاهور؟ لكن، في المقابل، نجد أنهم كلهم، وبدون استثناء، ومن دون تأخر، سارعوا إلى إدانة تفجيرات بروكسل، بكل عبارات الشجب والإدانة التي يحفل بها القاموس العربي.
هذه المفارقة، حتى لا نقول حالة "الانفصام" انتقلت حتى إلى المجتمعات المدنية، وإلى الأفراد. وصار كلما وقع اعتداء إجرامي على دولةٍ غربيةٍ، سارع رواد المواقع الاجتماعية في كل بقاع الأرض، وخصوصاً في منطقتنا العربية، إلى ترديد عبارات "أنا باريس" أو "أنا شارلي" وأخيرا "أنا بروكسل"، للإعراب عن تضامنهم مع الضحايا. وفي هذه المواقف كثير من النبل والحس الإنساني الذي يتجاوز الحدود، ويرتفع فوق كل الحزازات الدينية، والحساسيات العرقية والإثنية، والاختلافات اللغوية والفوارق الاجتماعية.
لكن، لماذا لا يبادر الأشخاص أنفسهم إلى التعبير عن التضامن نفسه عندما يتعلق الأمر بضحايا أبرياء في لاهور أو أنقرة أو اليمن أو العراق الذي يسقط فيه عشرات الضحايا يومياً، بفعل الإجرام المدان نفسه، من دون أن نتحدث عن سورية التي سقط فيها خلال شهر من تطبيق الهدنة 360 قتيلا، أغلبهم مدنيون من النساء والأطفال، ومن دون الحديث أيضاً عن المأساة الفلسطينية التي لم يتوقف نزيف ضحاياها الأبرياء منذ ستة عقود ونيف.
شعور نبيل أن يرتقي الحس الإنساني إلى مرحلة التضامن العالمي، لكن المؤسف أن يتم التطبيع مع قتل الإنسان غير الغربي، إلى درجة الإهمال والنسيان التي لم يعد يستحق معها سوى إشارة عابرة في شريط الأخبار الذي يعرض أرقام عدد القتلى، مثلما يعرض أرقام أداء البورصة اليومي، ببرودٍ ومن دون تعليق.
يحمل هذا النوع من "التمييز" السلبي تجاه الموت والقتل البشع، وقد كرّسته وسائل إعلام
غربية كبيرة، رسالةً خاطئة إلى الإرهابيين والمجرمين الذين لا يميزون بين ضحاياهم، مفادها بأن "الدم الغربي" أغلى ثمناً من أي نوع آخر من الدم، وأن قيمة الحياة التي تعتبر "قيمة إنسانية" تختلف حسب جنسية الضحية ودينها وبلدها! وتتحمل هذه النظرة الغربية "المتعالية" القديمة، إلى حد ما، جزءاً من مسؤولية ما يقع من جرائم باسم الانتقام من انعكاساتها السلبية على الآخر، لأنها توفر للإرهابيين مسوغاتٍ لارتكاب أعمالهم الإجرامية المدانة وتبريرها.
في دراسةٍ حديثةٍ لمركز بريطاني، اسمه ديموس، أوردت جريدة القدس العربي بعض نتائجها الأولية، سجلت صدور 10 ملايين تغريدة على موقع "تويتر" فقط، في أيام قليلة، بعد تفجيرات بروكسل. وفي الدراسة نفسها، يتساءل المسؤولون في المركز عن سبب هذا التعاطف الكبير مع ضحايا الهجمات الإرهابية في الدول الغربية، عكس ما يحصل مع ضحايا الهجمات نفسها في بقاع أخرى.
ومهما كانت أسباب هذا "التعاطف" الذي يتداخل فيه ما هو عاطفي بما هو نفسي ووجداني، نتيجة ترسباتٍ تاريخيةٍ وبفعل تأثير الآلة الإعلامية والدعائية الغربية، طوال عقود، فإن النتيجة واحدة، وهي خدمة الدعاية الإرهابية التي لا تفرق بين ضحاياها. مع فرق فظيع في الإحساس لدى الضحية غير الغربي الذي يجب أن يتحمّل معاناة الضحية المفروض عليها أن تطبع مع جراحها، وفي الوقت نفسه، مسؤولية المجرم الذي يستحق كل ما يقع له.
نظرية "مركزية الغرب" ومنطق "التعالي الغربي" وترويج "سمو الإنسان الغربي"، كلها أمور تغذي منسوب الكراهية تجاه الغرب الذي يقتات عليه دعاة الحقد والعنصرية والحرب في الضفتين. وتحت غطاء هذه المفارقة الغريبة، يستمر نزيف دماء الأبرياء من بروكسل حتى لاهور، وقد حان الوقت لمراجعتها ونقدها، في انتظار أن تتوفر الشجاعة لكشف عريها وزيفها.
في تفجيرات بروكسل، قتل نحو 31 شخصاً، وأودت تفجيرات لاهور بحياة 65 ضحية، أغلبهم من النساء والأطفال. لكن ردود الأفعال في العالم جاءت مختلفة ومتفاوتة تجاه المأساتين. ففيما اهتز العالم الغربي لأحداث بروكسل، وتبعته في ذلك باقي دول العالم التي دان زعماؤها ما حدث في بلجيكا، وخصصت له وسائل الإعلام الغربية المؤثرة في صناعة القرار العالمي ساعاتٍ بل وأياماً من البث المباشر، والمتابعة الدقيقة، لكشف بشاعة الجريمة، والبحث في تشعب خيوط منفذيها ومدبريها.. في مقابل كل ردود الأفعال القوية هذه، المفروضة أمام كل عمل إرهابيٍّ تمقته البشرية، تمر أخبار تفجيرات لاهور وأنقرة في شريط الأخبار القصيرة أسفل شاشات كبريات القنوات العالمية التي حوّلت الفضاءات العامة في بروكسل إلى استديوهات مفتوحة منذ وقوع تفجيراتها الإجرامية.
وليس الإعلام الغربي وحده من يتعامل مع القتل البشع بمكيالين، بل حتى الساسة، ومنهم ساسة الدول غير الغربية الذين لا يستخدمون اللغة نفسها في إدانة الأعمال الإجرامية، كما لو أن للحياة والموت معايير لتحديد قيمتها حسب الموقع الجغرافي والانتماء العرقي.
هذا إذا صدرت فعلاً مثل هذه الإدانات تجاه ما يقع يومياً من مآسٍ في دول غير غربية. فكم من ملكٍ ورئيس عربي، مثلاً، دان تفجيرات لاهور؟ لكن، في المقابل، نجد أنهم كلهم، وبدون استثناء، ومن دون تأخر، سارعوا إلى إدانة تفجيرات بروكسل، بكل عبارات الشجب والإدانة التي يحفل بها القاموس العربي.
هذه المفارقة، حتى لا نقول حالة "الانفصام" انتقلت حتى إلى المجتمعات المدنية، وإلى الأفراد. وصار كلما وقع اعتداء إجرامي على دولةٍ غربيةٍ، سارع رواد المواقع الاجتماعية في كل بقاع الأرض، وخصوصاً في منطقتنا العربية، إلى ترديد عبارات "أنا باريس" أو "أنا شارلي" وأخيرا "أنا بروكسل"، للإعراب عن تضامنهم مع الضحايا. وفي هذه المواقف كثير من النبل والحس الإنساني الذي يتجاوز الحدود، ويرتفع فوق كل الحزازات الدينية، والحساسيات العرقية والإثنية، والاختلافات اللغوية والفوارق الاجتماعية.
لكن، لماذا لا يبادر الأشخاص أنفسهم إلى التعبير عن التضامن نفسه عندما يتعلق الأمر بضحايا أبرياء في لاهور أو أنقرة أو اليمن أو العراق الذي يسقط فيه عشرات الضحايا يومياً، بفعل الإجرام المدان نفسه، من دون أن نتحدث عن سورية التي سقط فيها خلال شهر من تطبيق الهدنة 360 قتيلا، أغلبهم مدنيون من النساء والأطفال، ومن دون الحديث أيضاً عن المأساة الفلسطينية التي لم يتوقف نزيف ضحاياها الأبرياء منذ ستة عقود ونيف.
شعور نبيل أن يرتقي الحس الإنساني إلى مرحلة التضامن العالمي، لكن المؤسف أن يتم التطبيع مع قتل الإنسان غير الغربي، إلى درجة الإهمال والنسيان التي لم يعد يستحق معها سوى إشارة عابرة في شريط الأخبار الذي يعرض أرقام عدد القتلى، مثلما يعرض أرقام أداء البورصة اليومي، ببرودٍ ومن دون تعليق.
يحمل هذا النوع من "التمييز" السلبي تجاه الموت والقتل البشع، وقد كرّسته وسائل إعلام
في دراسةٍ حديثةٍ لمركز بريطاني، اسمه ديموس، أوردت جريدة القدس العربي بعض نتائجها الأولية، سجلت صدور 10 ملايين تغريدة على موقع "تويتر" فقط، في أيام قليلة، بعد تفجيرات بروكسل. وفي الدراسة نفسها، يتساءل المسؤولون في المركز عن سبب هذا التعاطف الكبير مع ضحايا الهجمات الإرهابية في الدول الغربية، عكس ما يحصل مع ضحايا الهجمات نفسها في بقاع أخرى.
ومهما كانت أسباب هذا "التعاطف" الذي يتداخل فيه ما هو عاطفي بما هو نفسي ووجداني، نتيجة ترسباتٍ تاريخيةٍ وبفعل تأثير الآلة الإعلامية والدعائية الغربية، طوال عقود، فإن النتيجة واحدة، وهي خدمة الدعاية الإرهابية التي لا تفرق بين ضحاياها. مع فرق فظيع في الإحساس لدى الضحية غير الغربي الذي يجب أن يتحمّل معاناة الضحية المفروض عليها أن تطبع مع جراحها، وفي الوقت نفسه، مسؤولية المجرم الذي يستحق كل ما يقع له.
نظرية "مركزية الغرب" ومنطق "التعالي الغربي" وترويج "سمو الإنسان الغربي"، كلها أمور تغذي منسوب الكراهية تجاه الغرب الذي يقتات عليه دعاة الحقد والعنصرية والحرب في الضفتين. وتحت غطاء هذه المفارقة الغريبة، يستمر نزيف دماء الأبرياء من بروكسل حتى لاهور، وقد حان الوقت لمراجعتها ونقدها، في انتظار أن تتوفر الشجاعة لكشف عريها وزيفها.