منفى
في منفىً اختياريّ أرقبُ ملايين الناس
داخلَ منفاهم القسريّ يتدافعون خارج بيوتهم
وامرأة سورية تقول إنها تفضّل الموتَ على أن تُغتصَب
وهكذا لا تجرؤ على مغادرة بيتها
أودُّ أن أغزوَ أهلَ هذه الفِعال الوحشية التي تُرتكَبُ باسمِ
إلهٍ أو لا إله لولا أن جيشي من النوع الذي لا يحمل السلاح
إنما الأقلام التي ينفد منها الحبرُ، يحمل القلوبَ والعضلاتِ
التي تستجيب للأدمغة وتنثر بذورَ المودّة والتراحم
وهكذا، من بذرة إلى أخرى، آنَ الأوانُ لأنْ نستدير صوبَ الشمس
فنتبرعَم عميقاً نحو الأعلى وفي كلّ اتجاه
لنردَّ ما لم يكن ملْكاً لنا أو ببساطةٍ
نقتسمه في ما بيننا على أكمل وجه.
■ ■ ■
أيتها الكراهية
أن تكونَ في هذه اللحظة
ثمة رُقاقة رمادية من سماءٍ
فوق أشجار حورٍ
تحفُّ بنهر الرون
وتفكر بالولد الفلسطيني
الذي رُمي بالرصاص، ومزّقه الجنود الإسرائيليون
إرباً إربا
مَن يمزّقُ يتسبب بالدمع
ومن يربح يخسر
ومن يخسر يربح
عامداً متعمّداً
دونما فكرةِ
عمّن توسّدَ الأرضَ
كي يقضيَ
واسمُ الله على شفتيه
ههنا الحرير يُصنَعُ
ناعماً، وامتداده الفضفاض
كفيلٌ بأن يجعل
منكَ مومياءً
لكن في تضاعيف هذه الفِكَرِ
رائحة خرقةٍ تلطختْ بالدم
و حشَتِ الحنجرةَ
بِثَورٍ عديم الرحمة
يختنق بدمِ جسده.
ينعقدُ لسانُ الخريفِ
الطويلُ إلى خَرَسٍ
وفي الأعلى طائر أسود
يغرز جناحيه عميقاً في القلب
مَن تراكَ تحبُّ وعيناك مغمضتان؟
بمَن تراكَ تثقُ وعيناك مغمضتان؟
هذه الفِكَرُ تقتلني بدوري
وههنا تُقْبلُ أمُّنا، الـمَنِيَّةُ، من جديد
بأسنانها اللامعة
أيتها الكراهية، لكَمْ أكرهكِ
لكنك سهلة الوقوع في الحب
سهلة الولاء في عماكِ
فاحضنيني بين ذراعيكِ الشائكتين
وخزيني حتى الوجع
كي أنشدَ الخلاص منكِ
بكلّ ما أوتيتُ
للأبد
ثم أوقفي الأولادَ عن إلقاء حجارةٍ تفوق أعمارهم
نحو رجال عليهم أن يتعلموا شيئاً غير إطلاق الرصاص
على بشرٍ أصغر وأكثر فتوّةً من ذواتهم
أوقفيهم عن أن يكونوا علفاً
للـ (الشباب الكبار) الذين يلعبون لعبةَ احتكارِ
حيواتِ الناس في قاعات الرخام
الذين لن يُبصروا وجوههم
الذين لن تُصافَح أيديهم
بعد ذلك تأتي لحظة الحقيقة
اللحظة التي تعيش من أجلها
اللحظة التي تموت من أجلها.
■ ■ ■
شارع المتنبي
لطالما كانتِ الكلمةُ في مواجهةِ العالم
أو هل كان الأمرُ عكسَ ذلك
ضعِ الكلماتِ بعضها مع الأخرى تحظَ بجملة
تتغايرُ بأكثر من احتمال واحد
وفي أحيان كثيرة فلتكن ضمنَ كتاب، قصد ساحر
في موضوع ما، حكاية، قصيدة، أو حكمة
تفجير شارع من كلمات
يشبه تفجير العالم بأكمله
لأكثر من مرة، وتفجير
شارع المتنبي هو التخلّص
من ألوف سنوات العشق
للكلمات والحقيقة والكتب والأحلام
والرؤى، من قصص الحب والدم الـمُراق
ثم الجاف، الـمُراق ثم الجاف، والبشر
يدخلون ويخرجون من الصفحات والمقاهي
ورائحة دجلة تعبق في أنوفهم
هناك كان الشعراءُ يصبون الشايَ جنباً إلى جنب
منذ البداية، بين حربٍ
وأخرى، ينبعث وميضٌ
وسط أولئك الذين يحملون الأقلام وكأنها سلاحهم الأوحد
مهما يكن ما يحاولون نسفَه، نسف
ما في وجوه الناس، في أدمغتهم المغسولة
ومستقبلهم الفارغ، إرثهم الذي
راح في نفثة دخان، غير أن الكتاب بحد ذاته
ليس المسألةَ الأكثر أهمية، إنما الخوف
من أن تكون الكلمةُ الحرةُ حبيسةً وراءَ حجاب.
■ ■ ■
رقص على جناح نفَس
حملتني الريح إلى هنا
إلى ركنٍ مخفيّ
على شاطئ صخريّ
شيء ما يوشك على إذابة
الضوء والسماء والبحر
مجتمعِين في داخلي
الموجُ الصاخب
يشبه ما يعتمل
في نفسي
وها أمي هناك
وأمامها كلّ الأمهات
يرقصن على جناحٍ من نفَس
يغدو هو نفَسي
ثم لا شيء يوقفني الآن
عن إفلات سيل دموع
على أولئك الذين رحلوا
والذين يجوبون الأرض
بحثاً عن وطن جديد
حيث لا تسقط القنابل.
■ ■ ■
العودة إلى البيت
أسمعك وأنت ترتقي الدرجاتِ
حقيبتك ترتطم بالدرابزين الحديدي
والمفتاح يتلمّس فتحة القفل على الباب
ثم ها أنت في البيت، وسيعمّ الدفء في المكان من جديد.
في بعض الأيام لا أسمعك أبداً
تظهرُ هكذا وكأنك آتٍ من مكانٍ عدمٍ
القبّعة السوداء تعتِّمُ عينيك
فيحين وقت تشغيل التدفئة.
لا مسافة فاصلة في الحالتين
بين أن تأتي أو تغادر
وإن حدث ثمة جفاف في مشاعري
فلأني تركتُ البابَ مفتوحاً طوال النهار.
■ ■ ■
11/9
I
في "لا مكانٍ" ما ثمة عصفوران فضيّان.
يتداعى البرجان التوأمان،
وبقعة "الأرض زيرو" الآنَ فجوةُ عدَمٍ كبيرة.
عقِبَ ذلك، قال: "أنت إما معنا أو ضدّنا".
II
كان رجلاً طيباً، كانت امرأة طيبة
كانت تريد الخير للجميع، وهو أراد
الخير لهم. كان يحب أطفاله. ويهاتفني مرتين في اليوم،
وتهاتفني هي أربع مرات في اليوم. كان ابناً طيباً،
كانت ابنة طيبة. نذر حياته لعائلته،
نذرتْ حياتها للمكتب. وكان دائماً يعدّ لي الفطور.
كان أمامها مستقبل مشرق. كان لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
لم ينبس قطّ بكلمة بذيئة بحقّ أحد، ولم تُكثر
هي في الكلام. جاءتْ إلى هذه البلاد منذ سنوات خمس.
كان أميركياً طيباً. كانت مسيحية صالحة.
كان مسلماً صالحاً. كان يهودياً صالحاً. كانت
كاثوليكية صالحة. كانت لتوّها قد أنجبت طفلاً. وكان قد تزوج منذ أمد قريب.
عاشت مع والديها. كان أول الواصلين إلى المكتب.
كانت آخر من يغادر العمل. كان أفضل صديق
وأب وابن في العالم. كانت أفضل أم
وابنة وصديقة. كانت ابنتي الوحيدة.
كان ابني الوحيد. كانت طيبة. كان طيباً.
كانت طيبة. كان طيباً. كانت طيبة. كان طيباً.
III
لحظةَ يغادر أحمد بيته تسقط قنبلة
لخطأ في التوجيه فتبيد عائلته بأكملها.
"هذه الأرض المحتضرة تشهد أني لم أرتكب شيئاً"،
قال ويداه تلوّحان، وقلبه مليء بالفجوات.
في الغد لن يبتسم أحد.
باع زارغي ابنته مقابل كيس طحين
لعابرٍ يتلمظ على عينيها الخضراوين.
الآن يأكلون بصمت، بينما يفتح عصفوران معدنيان
منقاريهما على اتساعهما فوقهم ويتقيّأان بصاقهما اللامع نفّاذ الرائحة
المرة تلو المرة، ليجعلا من كل أرض أفغانستان بقعة "الأرض زيرو"
هنا، لا تعويض تناله حين تموت، بل حتى لا يمكن أن تحلم بسماعه،
"فتقبّل اعتذاري". هنا سأدخلُ القصيدةَ بنفسي لأنني أريد
أن أصلَ إلى عين العالم العمياء، وأنزعَ الحجاب الذي يفرّق
ما بيننا وأسبغ اسماً على كلّ رجل وامرأة وطفل
الذين في مواجهتهم الصعاب يستمرون في الطموح والعيش فوق التراب والأمل.
■ ■ ■
خوف
أتمدد في الغرفة الظلماء
خائفة من الوحش
القابع تحت السرير، والأخيلةُ
تلقي بنفسها على الجدران،
نفدَ الحبر من القلم، والشراشف تبللتْ
لو تجرأتُ على التطلّع حولي، لو
تجرأتُ لا أكثر، لربما
كنتُ سأجدُ
تحت السريرِ كعكةَ الأميرة.
■ ■ ■
الجبل المرتعش
(إلى غانيةٍ شابّة)
يقول لها إنه يحبها
ويقهر قلبَها
كلّ كدمةٍ تذهب عميقاً
في قفاها النحيل
ونهديها اللذين برزا منذ عهد قريب.
أتدركُ ما أقول، هو يحبها
وهي تعلم ذلك
بينما تخطرُ في عتمة الليل البهيم
تنسل خلسة إلى السيارات ثم تخرج منها
بجسدها الصغير الشبيه بآلة القمار.
أتدرك ما أقول، هو يحبها
وهي تعلم ذلك
وضحكاتُ طفولتها
تنزلق في حنجرتها
إلى حسْرة المقامرِ.
عثروا عليها في خندق على جانب الطريق
وفي شعرها وحل لزج
يقول النقشُ على قبرها:
زمان الوفاة مجهول
مكان الوفاة مجهول.
أتدرك ما أقول، هو أحبّها
أتدرك ما أقول، هي صدّقته.
■ ■ ■
كأنما يقدرون على تحطيم روحك
(إلى موميا- أبو جمال)
كأنما يقدرون على تحطيمِ روحكِ
جوهرِ الروحِ الصّميمِ
النّابعِ من العمق،
أو وقفِ الكلماتِ الطالعةِ من الأيدي المغلولةِ
لضميرٍ يأبى
أن يكون خلف القضبان،
يأبى أن يُطبقَ فاهُ
إزاءَ الجورِ في عالمٍ
يخنقُ نفْسَه بالأكاذيب
وأولئك القابعون وراء جدران الخوف
وقد تسمّروا في الدروبِ
خشيةً مما يسمعون،
فزِعينَ من القصص
التي يجأر بها تاريخٌ
لا يتّفقُ والكفاح
الذي قد يطيح بخوفهم.
موميا ليس خائفاً
لأنه قد خَبِرَ
أوزارَ الماضي،
وكضحيةٍ لتلك الليلةِ الليلاء
يتحدّث بصفاء كما كان أبداً
من أعماقه، يعلمُ،
ويرى بجلاء بما هو صوتُ
من لا صوت لهم.
عشرون عاماً ونيّف أمَدٌ طويل
قد مضى على قهره وسجنه،
أمدٌ طويل تشابكَ فيه الجنون
في الداخل والخارج على حدّ سواء،
كيف أن القتلةَ الحقيقيين يُفلتون
من جريمتهم الصارخة، إلقاء القنابل
العشوائية حتى دون أن تتلطخ
أيديهم، يتهادون على شرفاتِ
جهلهم وجشعهم المعنِّد؛
عشرون عاماً ونيّف أمدٌ طويل
يمرّ دون سماعِ خُطاكَ
حين وصولكَ البيت،
أمدٌ طويل للغاية لكن ليس
لأنْ تحنوَ وتحيطَ بصوتكَ
أولئك الذين تحبهم.
ذات يوم، سنتمشّى معك، يا موميا،
من شارع موميا - أبو جمال
في سان دينيس، باريس
إلى ملعب نيلسون مانديلا
بخطىً حرةٍ مع الجميع.
■ ■ ■
نيلسون مانديلا الحاضر
حين رحلتَ
استدرْنا إلى جهة واحدة
ووقفنا صفّاً واحداً تحت
لافتةٍ تحمل ابتسامتك العريضة
التي طوّقتْ حزنَنا ورَوْعنا.
هناك شخصٌ وحيد يشبهكَ
لكنّ معانيكَ
حاضرة فينا جميعاً
ولو أردنا أن نُقِرَّ بأفضالها
فهي بمتناول أيدينا لنصنع
العالمَ الذي حلمتَ به
العالم الذي سيكون
أفضل للجميع
لنصغي بانتباه إلى كلماتك
وليس أن ننسجَ الوعودَ وحسْب
بل أن نتصرف بهديِها
لتغمرنا القناعة مثلك
بأن في التعدد والاختلاف قوّة
روحكَ كليّةُ الحضور
حتى قضبان السجن
أو النعش في عمق التراب
لم يكن لهما أن يحدّا من وهجها
ولو عشنا بهدي كلماتك
فإن العالم سيكون
مكاناً مختلفاً عمّا كان عليه
أضع يدي في يدك يا ماديبا
أشعر بدفئها ورهافتها
وأثق في أنك أريتنا الدربَ.
* Agneta Falk شاعرة وتشكيلية سويدية تكتب بالإنكليزية (استوكهولم، 1946). بعد دراستها المسرح والأدب، انتقلت إلى إنكلترا في أواخر الستينيات، حيث أشرفتْ على حلقات للكتابة النسوية. في أواخر التسعينيات انتقلت إلى سان فرانسيسكو. من إصداراتها: "أنا هنا بملء إرادتي" (1980) و"ليس الحب، هو الحب" (الصورة/ 2000)، كما ترجمت قصائدها إلى لغات عديدة. سيصدر لها كتاب جديد في فنزويلا مطلع العام القادم.
** ترجمة أحمد م. أحمد