مناورةٌ في واشنطن أم انفلات؟

07 فبراير 2017
+ الخط -
من الصعوبة بمكان أن يسلم المرء بأن ما يجري حاليا في الولايات المتحدة الأميركية ليس سوى حالة انفلات عادية، فنحن نتحدث عن أكبر وأقوى دولة في العالم، ومحكومة بعقول وبمؤسسات قوية وتقاليد راسخة، فهل يعقل أن ما يحصل، هذه الأيام، يكون خارج نسق ما يتحكم فيه ويوجهه نحو تحقيق هدفٍ واضح لدى الذين يحرّكون الخيوط من وراء حجاب. هذا ما يعتقده كثيرون يرفضون المصادفة، ويؤمنون بوجود "خطةٍ محكمة تنفذ بذكاء لتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى". ولا تتعلق هذه الخطة فقط بإعادة ترتيب البيت الأميركي الداخلي، وإنما يريد أصحابها الذهاب إلى أبعد من ذلك، حيث يستهدفون إحداث تغييراتٍ ضخمة في النظام الدولي، بما في ذلك التصدّي للنمط العولمي السائد، والذي يمر بأزمة عميقةٍ، وكأنه قد استنفد أغراضه، وبدأ ينقلب حتى على مصالح الدول التي صنعته وفي مقدمتها أميركا. وفي هذا السياق، تأتي أيضا الرغبة الواضحة في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط برمتها، بعد أن أصبحت الظروف مهيأة لذلك.
يمكن أن نسلم بهذه المنهجية التي تعتمد على فهمٍ أشمل للأحداث الدولية التي لا يمكن أن تخضع للمصادفات أو تفهم في ظل تجزئة الأحداث والوقائع. لكن، مع ذلك، هناك نقاط كثيرة غير مفهومة في المشهد الأميركي الراهن. هناك شخص وقفت إلى جانبه، في لحظةٍ من اللحظات، مؤسسات ضخمة، ساهمت بقوة في نجاحه. لكن، ما كاد أن يضع قدميه في البيت الأبيض، حتى بدا وكأنه في صراع مفتوح ضد الجميع تقريبا، بما في ذلك الحزب الجمهوري الذي تبنّاه، والذي وجد نفسه حاليا منقسماً على نفسه بشأن الإجابة على سؤال محدّد: هل يذهب مع دونالد ترامب إلى الآخر، أم عليه أن يسحب نفسه، ويتخلى عنه قبل أن تغرق السفينة بالجميع.
الغريب أيضا أن ساكن البيت الأبيض لا يتفاعل إطلاقا مع الذي يجري حوله، فهو، في كل صباح، يجلس على مكتبه، ويشرع في إصدار التعليمات، والتوقيع على عشرات المراسيم، واتخاذ القرارات في اتجاهاتٍ مختلفة، من دون الأخذ بعين الاعتبار "الثوابت" و"المصالح" و"الحلفاء" و"الأعداء" و"التداعيات". إنه يشبه قطار الموت المبرمج للوقوف في محطة مجهولة، فتراه يتجاوز كل العلامات، ويتخطى جميع المحطات، ولا يعترف بكل الإشارات والتحذيرات. فهل هذا أمر معقول أو منطقي؟ وهل يمكن اعتباره جزءاً من خطة سرية ومجهولة تنفذ في الخفاء، ولا يفهمها حتى الأميركيون أنفسهم، بل وأصحاب النفوذ والمصالح فيها؟ هل يمكن التسليم بأن وسائل الإعلام والنخب وأجهزة المخابرات والقيادات السياسية في الحزب الديمقراطي، وأيضا في جزء من الحزب الجمهوري، وكبار الدبلوماسيين وقطاع واسع من المجتمع المدني، كل هذه الأطراف غير مطلعة على هذه الخطة السرية التي ستغير أميركا والعالم، أم إنها هي أيضا جزء من تنفيذ الخطة؟
تبدو الصورة الآن مضحكةً إلى حد كبير، لأن ما يحصل في واشنطن أصبح أكثر إثارةً مما قد يحدث في أضعف بلد من بلدان العالم الثالث. وهو ما جعل رؤساء الدول الكبرى في أوروبا والصين يعتقدون أن ما يجري خطير، وهم يتحدثون علنا عن ضرورة التوقي من تداعيات، وهم مستعدون للتعاون مع أي جهة أميركية من أجل وضع حد لما يعتبرونه انفلاتا يصعب التكهن بما قد يترتب عنه من كوارث.
أما الأنظمة العربية فقد رضيت بالتقسيم الذي قرّره دونالد ترامب، وفق مزاجه ومصالحه الشخصية. بعضها وضعه في موقع القطط الخطيرة والمتوحشة، في حين رحبت الأخرى باختيارها لتكون قططا وديعةً مرحباً بها في بيت السيد. والغريب أن جميع الأنظمة متهمة بأنها داعمة للإرهاب ومسؤولة عنه، وإنْ بنسبٍ مختلفة ومتباينة.
هذا سيناريو قديم يتكرّر منذ عشرات السنين، تضع القوى الدولية الأهداف والقواعد، ويقوم الحكام فقط .. بالتنفيذ.
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس