مفتّش فرنسيّ في درس اللغة العربيّة
اجتمع بنا في الأشهر الأولى من عملنا بالمعهد مفتّش فرنسيّ، أو متفقّد بالمصطلح التونسي، لمناقشة جملة من الأمور بعد أن حضر ضيفاً في فصولنا وعاين طريقتنا في التدريس كما خبرناها في المدارس العموميّة، حتّى أصبحنا من خيرة المدرّسين الذين يستحقّون الظفر بعقود الإعارة.
وعلى غير المتوقّع، أبدى المفتّش الفرنسيّ استغرابه من الإيقاع السريع الذي صاحب دروسنا المخصّصة يومها للقراءة والفهم. فقد كنّا نسابق الزمن كما تعوّدنا أن نفعل في المدارس التي جئنا منها، حيث يُشدّد المفتّشون التونسيّون على ضرورة الإحاطة بكلّ جوانب المقروء في حصّة واحدة، وإلّا فأنت مقصّر لا تستحقّ الترسيم!
ويبدو أنّ المشهد الذي عاينه الضيف الفرنسيّ لم يكن مفاجئاً فحسب، بل مثيراً للفكاهة، إذْ كان بعضنا يلهث طوال الحصّة وهو يسأل ويجيب بدلاً عن التلاميذ ويكتب على السبّورة معلومات كثيرة ثمّ يمسحها (قبل أن يتمّ نسخها) ليكتب غيرها. فالوقت يضغط، والنصّ مازال بحاجة إلى التحليل المعمّق على نحو "لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها".
ولذلك، طلب المفتّش في نهاية الاجتماع، أن نهجر تلك العادة السيّئة، وأن نمنح للطلاّب وقتا كافيا للفهم والمشاركة في إنتاج المعرفة اعتماداً على استراتيجيات وأهداف يقع إعدادها مسبقاً. وأوصى الإدارة بضبط برنامج تدريبيّ يساعد الأساتذة على تحيين معلوماتهم حول طرائق التدريس التي تتغيّر بسرعة مستفيدةً من منتجات التقدّم التكنولوجيّ.
ولا يخفَى على أحدٍ أنَّ غياب التدريب في مؤسّسات التعليم العموميّ بأغلب البلدان العربيّة، أدّى إلى ما يُلاحظ اليوم من ضعف وتراجع على مستوى العمليّة التربويّة التي أنهكها الروتين القائم بالأساس على التلقين وضخّ المعلومات والمطالبة بحفظها.
والعبرة من قصّتنا الطريفة، أنّ الحوار مع الآخر، يفسح المجال واسعاً للاطّلاع على التجارب المتنوّعة في قطاعات عديدة ومنها قطاع التعليم. لكنّ وزارتنا لا تتواصل مع ذوي الخبرة من كوادرها المُعارين الذين يمثّلون طريقا مختصراً للإلمام بكلّ جديد مستحدث... ومن مظاهر تقصيرها أنّها نظّمت بُعيد الثورة ندوة وطنيّة حول إصلاح المنظومة التربويّة، وكان من بين محاورها مسألة الانفتاح على أنظمة تعليميّة مغايرة. بيد أنّ تقريرها النهائيّ أشار إلى إجماع المتدخّلين في ذلك الباب على أنّنا في غنى عن التجارب الأجنبيّة! وهي خلاصة غريبة تؤكّد أنّ الوزارة دعت أشخاصاً لا يعرفون شيئاً عن تلك المسائل، مُهملة أصحاب الخبرة من أبناء الوطن الذين يعملون ضمن منظومات تعليميّة فرنسيّة وكنديّة وأميركيّة..
وهكذا يدهشك في تونس، وفي بلاد عربيّة كثيرة تقرير مصير أجيال بمواقف دوغمائيّة متزمّتة تخشى كعادتها ذلك الآخر المختلف، فتضيّع فرصًا ثمينة للتعرّف والتعارف وتبادل الخبرات، بذريعة الدفاع عن "السيادة الوطنيّة"، ومقاومة "منطق الوصاية والتبعيّة" كما يقال في الخطب الحماسيّة التي تكتب على عجل.... وللحديث بقيّة!