الفأرة ولوحة المفاتيح وكورونا!

31 مارس 2020
+ الخط -
دعت وزارة التربية والتعليم في تونس، قبل أيّام، عموم المدرّسين إلى المبادرة بالتطوّع وإنتاج وثائق رقميّة تتعلق بالبرامج الرسمية وإرسالها إلى المتفقدين (المفتّشين) المشرفين عليهم بيداغوجيّاً لمراجعتها والمصادقة عليها، قبل وضعها على ذمّة الطلاب حتّى يستفيدوا منها خلال فترة إغلاق المدارس توقّياً من فيروس كورونا.

وقد استغربتُ شخصيّاً أن تطلب الوزارة من مدرّسيها إنتاج وثائق رقمية، وأغلبهم لم يتلقّ تكويناً ولو بسيطاً في مجال التعامل مع التكنولوجيات الحديثة.. والأغرب أنّها تطلب منهم إرسالها إلى المفتّشين للمصادقة عليها..

والمفتّشون الذين أعرفهم جيّداً من خلال تجربتي في مجال التربية والتعليم لن يوافقوا بسهولة على تلك الأعمال التي لن تصل إليهم على كلّ حال، وإن وصل بعضها فلن يجد طريقه إلى التلاميذ إلّا مع بداية عطلة الصيف، ما دمنا متمسكين بهذا المنطق الذي يسمّونه تسلسلاً إدارياً، أو بيروقراطيّة، أو تخلّفاً..


وأكاد أجزم أنّ غالبيّة المشرفين والمدرّسين لا يملكون عنوان بريد إلكترونيّاً، وإن امتلكوا واحداً فالأكيد أنّهم نسُوا كلمة المرور، وإن تذكّروها فلن يكونوا قادرين على إرفاق وثيقة أو ملفّ مع الرسالة المكتوبة؛ بسبب انعدام التكوين أو قلّة استعمال تلك الوسائط..

في هذا السياق، ذكّرتني زوجتي (وهي مُدرّسة منذ عشرين عاماً) بآخر ورشة تكوينيّة حضرتها، وكانت مخصّصة لتعلّم مهارات الكمبيوتر. فقد دُعِيَتْ مرّة لحضور يوم تكوينيّ مشهود في ذلك المجال العلميّ المهمّ.. وكان يمكنها أن تستغني عنه، إذْ علّمتُها بنفسي كيف ترقّن دروسها واختباراتها على وورد (Word)، وكيف تبحث على شبكة الإنترنت، وتحفظ الملفّات والوثائق، وقد سبقتُها في التعلّم بحكم عملي في مدرسة أجنبيّة تُولي أهميّة كبرى لتكوين المدرّسين وتدريبهم، ومع ذلك شجّعتُها على حضور ذلك اليوم التكوينيّ الذي دُعي إليه جمهور كبير من المدرّسين.. وقلتُ لها مسبقاً، اذهبي وسترين بعينيك أنّها ورشة بلا فائدة..

وكما توقّعنا فشل ذلك البرنامج، فقد حُشر المدرّسون الذين حضروا بكثافة في قاعة كبيرة من قاعات كليّة الفلاحة، وأُجبروا على الانتظار لمدّة ساعتين حتّى يصل سيادة وزير التربية والتعليم الذي جاء مشكوراً، وألقى كلمة رحّب فيها بالحاضرين، وبلّغهم تحيّات الرئيس زين العابدين بن علي، الذي أمر في أيّامه الغابرة، كما قيل، بتعميم دروس الإعلاميّة في جميع المدارس والمعاهد، وتزويدها بالإنترنت عالي التدفّق..

وبعد التصفيق الحارّ، طُلِبَ من الحاضرين الانتقال إلى قاعة الإعلامية حيث سيتولّى المكوّنون تعليمهم، "وعينك ما تشوف إلا النور".. كانت أغلب الأجهزة معطّلة لا تعمل، وكان المشرفون الذين دُعُوا على عجل لا يدرون شيئاً عن المهمّة التي طلبت منهم فجأة في صباح يوم الأحد، وهو يوم عطلة، واختلط الحابل بالنابل، والمتعلّم بالجاهل، والغاضب بالمسرور، وخرج الحضور، بعد وقت قصير من بداية الدرس التطبيقيّ على أجهزة قديمة تراكمت فوقها طبقات من الغبار.. وبعضها مفكوك الأزرار، أو ليس فيه لوحة مفاتيح، والفأرة التي تساعد المستعمل على الحركة بين النوافذ معطّلة أو غير موجودة، أما أغلب الشاشات فأحيلت على التقاعد من زمن طويل.. وعادت زوجتي بخفّي حنين، ولكن لا بأس، فقد تشرّفت بحضور معالي الوزير الذي أبلغها تحيّات الرئيس..

بعد عشر سنوات من تلك الحادثة، وقعت في أثنائها ثورة، ما زالت الأوضاع على حالها، ذهبت ابنتنا الصغيرة يوماً إلى مدرستها الابتدائيّة لحضور حصّة الإعلاميّة الوحيدة قبل شطبها من جدول الأوقات، ولمّا خرجت وسألناها عن الحصيلة، قالت إنّ الحواسيب الأربعة الموجودة في الفصل لا تعمل، وإنّ المعلّمة ضيّعت نصف ساعة في معالجة تلك الأجهزة القديمة بلا جدوى، ولذلك قرّرت أن تحدّثنا في بقيّة الوقت عن بطولات القائد القرطاجنّيّ حنّبعل!
42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.