لم يفتح لهن الحظ بابه لتقلد مناصب مسؤولية أو الجلوس على كراسي وثيرة داخل مكاتب مكيفة، بل كان الشارع قدرهن من أجل دريهمات تسد رمق الجوع لأطفالهن، أغلبهن لا يعرفن عيدا باسمهن، فكل أيامهن كفاح روتيني وسط مجتمع ذكوري.
هن إما أرامل أو مطلقات دخلن مكرهات مجالات عمل تكاد تكون حكرا على الرجال. سائقات سيارات أجرة بنوعيها الكبيرة والصغيرة، بائعات متجولات، جامعات قمامة، حارسات سيارات.
"امرأة بألف رجل" هكذا يلقبها زملاؤها الحراس. إنها الحارسة التي تودع أنوثتها وتوصد عليها باب شقتها الصغيرة لتقصد مكان عملها كحارسة للسيارات وسط الدار البيضاء (كبرى مدن المغرب).
بوزْرتها الزرقاء وقبعتها السوداء تباشر مهامها في ركن السيارات وحراستها متسلحة بإرادة وعزيمة قوية لا تكسرها إلا رغبتها في إعالة بناتها الثلاث على دراستهن ومواصلة مسار حياتهن.
تقول لـ"العربي الجديد"، إن "عيد المرأة العالمي لا يعنيها في شيء، فهو عيد للغنيات والموظفات، يعقدن الندوات ويتبادلن الكلمات الجميلة والهدايا والورود، أما الفقيرات فالعيد الحقيقي لهن مهنة تضمن لهن كرامة العيش".
ورثث عن زوجها هذه المهنة الرجالية، وبعد أن أسلم الروح خلفته دون أن تتردد كحارسة سيارات، تتسلم المفاتيح من الزبائن وتركن السيارات بمختلف أنواعها وتحرسها، ولا تخجل أبدا ما دامت تكسب من عرق جبينها.
"كل يوم ورزقه" تقول الحارسة وهي تستعد لأن ترشد إحدى زبوناتها بحركات يديها التي تعد قاموسا مشتركا هنا.
تنفي الحارسة أنها تتعرض للتحرش، "الاحترام يبادل بالاحترام، لم يسبق لي أن تعرضت للتحرش سواء من الزبائن أو من حراس السيارات الرجال، فأنا "رجل" في العمل، لا مساحيق تجميل ولا لباس يخدش الحياء العام".
تقول إن عملها الذي قضت فيه أزيد من ثلاث سنوات لم يكن يوما مدعاة لإحراجها، بل على العكس من ذلك فخورة به، بل إنها كثيرا ما تقرأ نظرات الإكبار والاحترام في أعين كل من يعرفونها.
بشرى أمل مفتوح على الجراح
في الثلاثينيات من العمر وأم لثلاثة أطفال تعيلهم من عملها كبائعة للوجبات الخفيفة في محل صغير في الدار البيضاء. نبرة التفاؤل كانت بادية في كلمات بشرى التي تعترف بأن المرأة المغربية نجحت وتفوقت في عدد من المجالات، ولا عيب أيضا أن تشتغل في مهن صغيرة طالما أنها تجني الرزق الحلال.
تقول لـ"العربي الجديد"، إنها كانت واحدة من بين المستفيدين من محل في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (مشروع أطلقه الملك محمد السادس)، الذي أعاد لها الاعتبار وجنبها مخاطر اعتداءات الشارع في عربتها القديمة".
لكن بشرى سرعان ما تغير من وتيرة كلامها لتؤكد أن حقوق المرأة الضعيفة تنتزع ولا تعطى. وحسب رأي هذه الشابة المطلقة، فإن اليوم العالمي للمرأة هو مجرد محطة تلوك فيه الألسن كلاما ووعودا تجد فيها الطبقة المهمشة نفسها في منأى عنها.
تقول "عيدي هو أن أتمكن من جمع بعض المال أعود به إلى البيت لسد حاجيات الأبناء من مأكل وملبس وتعليم وتطبيب". وتناشد بشرى المسؤولين أن يضاعفوا اهتمامهم بالمرأة المغربية، خاصة ضعيفة الدخل".
فاطمة سائقة وسط الرجال
"لو تدرين؟ في هذا العمر مازالت أركض بين الشوارع المحملة بأصناف البشر بحثا عن حياة ممكنة ظلت هاربة مني". هكذا بدأت فاطمة (41 سنة) حديثها لـ"العربي الجديد" بمرارة ظاهرة.
لم يكن من الصعب العثور عليها، فهي معروفة بين السائقين، كونها سيدة احترفت قيادة سيارة أجرة من الحجم الصغير، في ميدان رجالي بامتياز.
قضت في هذه المهنة المحفوفة بالمخاطر أزيد من خمس سنوات رأت فيها العجب العجاب وسمعت فيها روايات مختلفة صادمة ومتنافرة.
العيد العالمي للمرأة الذي تحل ذكراه اليوم، هو نفس اليوم الذي أطلقت فيه صرختها الأولى، هي تعرفه لكنه لا يعني لها أكثر من يوم عادي وسط طاحونة الحياة.
تقول "كان يجب أن أقول لك إن عيد المرأة يعنيني لأنني أولا امرأة وثانيا هو يوم ميلادي، لكن دعيني أقول لك، إنه بالنسبة لي مجرد يوم يكاد لا يختلف عن سابقيه، لا أتمتع فيه بعطلة ولا أمنح فيه وردة بل أقضيه وأنا أقل الركاب إلى وجهاتهم".
وتضيف لـ"العربي الجديد" أعلم أنني يجب أن أكون أكثر تفاؤلا لأنني على الأقل وجدت مهنة أكسب منها قوت يومي، لكن لا أخفيك سرا أن العمل فيها يتطلب قدرة على التحمل وضبط الأعصاب".
هموم تتضاعف حين تنزع فاطمة جبة الأم لتتحول إلى سائقة "وسط الرجال". تقول "يالعمل في هذا المجال ينطبق عليك قانون البقاء للأقوى، وقد فرض علي أن أجعل نبرة صوتي أكثر خشونة ونوعية مصطلحاتي اليومية مختلفة".
تتابع "أحاول أن أكون أكثر قسوة وصرامة مع بعض الزبائن الذين يرون في المرأة صيدا ثمينا، ولا أنكر أنني أتعرض لمضايقات باستمرار".
لم تستطع أن تكتم حزنها الذي انفجر في كلماتها إلى درجة ارتسام دمعات كثيرة في عينيها، سرعان ما مسحتها وهي تسأل زبونا جديدا عن وجهته، فعمل فاطمة في سيارة الأجرة، رغم أنه مجال رجالي، بدأ الناس بعتادون وجودها فيه شيئا فشيئا.
هؤلاء بعض من نماذج كثيرة يغيب الحديث عنهن في مثل هذه المناسبات، يواصلن رحلة الألف ميل بهمة وتحدّ كبيرين وكل أملهن عيش كريم وستر من رب العالمين.
اقرأ أيضا:اللبنانية سميرة.. ميكانيكية تتحدى الرجال