المطر المتساقط بزخّات كبيرة له صوتٌ مختلفٌ الليلة. لكنه لن يزعزع تركيزه، ولن يزعج عمله. يصغي بارت لاكورتي إلى الإيقاع ذي النبرة المتأخّرة لقطرات المطر المتهاطلة وكأنه معزوفة جاز على أسطح الأبنية، وعلى الحجارة في الشارع، وعلى مظلّة مدخل موقف السيارات تحت الأرض. تتبخّر، هذه الليلة، حرارة الأسفلت الملتهب من شمس الصيف، وتتحوّل إلى رطوبة لزجة تعلق على بشرتك، تماماً مثل موسيقى آرت بيبر.
يُطبق بارت لا كورتي جفنيه للحظة، مستسلماً لذلك الصوت في ذاكرته، ولتلك النوتات الحارقة الشبيهة بشراب البوربون وهو يمرّ ناعماً في الحلق، لا يصله أي ضجيج من الشارع. يستأنف عمله. يمطّ أصابع يده اليمنى، بينما يواصل بأصابعه اليسرى الشد على ماسورة بندقيته الكاركانو. يُسند عقبها بإحكام على كتفه، يثبّت لاكورتي بصره على المهداف التلسكوبي، وسبّابته على حارس الزناد.
يا له من شعور سخيف، النظر إلى العالم من خلال تقاطع المهداف، ونقله من وجه لآخر، ملاحظة تعابير المارّة في الشارع، ومن يضحك منهم، ثم مراقبة الوجه المقابل. حساب تأثير الرياح. سبق الضحية بتلك المليمترات القليلة التي تخلق، من جرّاء إطلاق النار من مسافة بعيدة، اختلافاً في المسار يصل إلى عدّة أمتار، بحيث لا يمكن للرصاصة التي يبلغ طولها سوى ستّة مليمترات إلّا أن تضرب في النقطة الصحيحة هناك وفقط. الأمر أشبه بتدريجة على المقياس اللوني، أو عبّة نفَس من الساكسفون.
يراقب بارت لاكورتي، من تحت مِنور على سطح أحد المباني، الساحة وهي تتلوّن بالأضواء والسيّدات والرجال والفتيان والفتيات، والدرّاجات البخارية المصفوفة على الأرصفة، والصالونات الخارجية للمحالّ، وزجاجات النبيذ، وكؤوس الجعة. هدفه سيأتي قريباً. كانت دراسة ملفّه دقيقة: الوصف البدني، الصورة، نوع الحركة ، العادات. كل شيء تمّ على أكمل وجه.
منذ متى لم تضغط على الزناد يا بارت؟ تساءل هو نفسه عن الأمر. سنوات طويلة مضت أوهمته أنه ذلك الموسيقي الشهير في نوادي الجاز والبلوز الأهم، والتي كانت ملصقاتها تحمل اسمه. لم يكن قد جرى تكليفه بأيّ مهام منذ مدّة. قاتل مأجور ببندقية كان يبدو شيئاً من الماضي.
الرؤساء الجدد يقتلون الآن بتمويل عالٍ، لا يستخدمون القنابل لتفجير القضاة، الرشوة وشراء الذمم أسهل بكثير. أما القتل فهذا أمر تركوه لغيرهم، لعصابات المخدرات، التي تبيع بالجملة وتترك بعدها المهمّة للشوارع والأسواق. لقد ولّى زمن القتلة المأجورين. لقد هرمت يا بارت. تجاوزت الستّين. كرّر لنفسه ذلك كثيراً. وهذه المهمّة لم يكن ليقبل بها. لكن بعض الطلبات لا يمكن ردها. سيكون هذا هو الأخير يا بارت. هذا ما قالوه له بالضبط. آخر طلب إذاً. آخر "سولو"، كما فعل مع Over the rainbow التي عزفها تلك الليلة عينها. كما هو الحال دوماً.
حتى في العتمة الخفيفة للمحلّ القديم، وبين الأضواء المزرقّة، خلال عزفه المنفرد، كان يمكنك رؤية تلك الدموع. دموع بارت. دموع رقيقة تنهمر من عينين نصف مغلقتين تحفر على خدّيه المنتفخين وهو يعزف على الساكسفون. القاتل الباكي. هكذا كانوا يطلقون عليه في أوساط المهنة، أليس كذلك؟ حتى أولئك الذين لا يعرفون سبب حصول ذلك معه وهو يعزف تلك المقطوعة بالتحديد.
حدث ذلك قبل سنوات طويلة. عندما كان الشباب قد بدأ يغادره بالفعل، وعدّ تقاطع الصلبان على كتفه قد غدا أمراً مستحيلاً. كان قد قرّر الاعتزال، لتكريس نفسه للموسيقى فحسب، التي كانت أكثر من مجرّد غطاء بالنسبة إليه. وكانت هناك كلار، آنذاك. كانت الصوت الأكثر حسّية في جميع الأندية الليلية في برلين ولا أحد كان يضاهي أداءها لـ Over the rainbow.
عندما ضغط على الزناد، انفجرت العجلة، وانحرفت السيارة لتصطدم بحاجز الطريق وتتبعثر أجزاؤها. مات السائق على الفور، كما هو مطلوب. كان ذلك هو تخصّصه حينها. كان لا يزال ينظر من خلال العدسة، حين مرّر بصره على الأشلاء المتطايرة للهدف، على الأبواب المفتوحة والمثنية للسيارة، إلى الدم المنسكب على المقاعد، إلى بقعة البنزين المتسعة التي سرعان ما ستشتعل فيها النيران.
على وجه كلارا. كان شعرها الأشقر منثوراً على المقعد الخلفي، وذراعها في وضع غير طبيعي. خيط من الدم على شفتيها الجميلتين. غزا الصقيع قلبه وروحه ويديه. بلا نفس، بلا صوت، حاول الوقوف على قدميه. ثم هبّت النيران في السيارة. وبقي بارت هناك، كالميت.
القاتل المأجور لا ينبغي أن تكون له مشاعر، القاتل المأجور لا يقع في الحب، القاتل المأجور لا ينتقم. وبالرغم من أن روجيرو إياريا الذي أمر بتلك العملية، وهو على علم مسبق أن كلارا كانت ستكون داخل السيارة. بارت لم يكن يعرف ذلك عندما أطلق النار، لقد كان يهم بتصفية شخص عديم الأهمية، قاتل من الدرجة الثانية عليه أن يموت. لم يكن يعلم أن هذا الرجل قبل ذلك اختطف كلارا من شقّتها، بعد أن خدّرها وحملها معه بناءً على أوامر إياريا. لأن القاتل المأجور الذي يقع في الحب لا يُصبح متقناً لعمله. والشركة لن تسمح بتسريحه. لقد فهم بارت ذلك جيداً في تلك الليلة في برلين.
وهكذا أمسى القاتل الباكي الذي يعزف Over the rainbow وهو يريق الدموع. ولسنوات استمر في العزف والقتل، والبكاء والقتل مقابل أجر. إلى أن شقّت صمتَ طيلة هذه السنوات مهمّةٌ جديدة، تصله الآن، دوماً من إياريا. المسنّ والقوي. والهارب. لقد غادر ألمانيا فراراً من خلاف بين العصابات ليحتمي في هذا المكان، حيث لم يعد يرغب في تلطيخ يديه. أو هكذا ما يريد أن يشيع من حوله. لكنه الآن يستعد لإرسال إشارة واضحة، من خلال ذلك الرجل، العقيد غابرييلي سودانو من فرقة مكافحة المافيا، الذي أصبح يشكّل خطراً عليه، بعد أن اقترب كثيراً منه. ذلك النزق. وهكذا وقع اختياره على بارت لا كورتي لأنه كان الأفضل. ولأن القاتل المأجور لا ينتقم.
كانت Over the rainbow الليلة، تحت هذا المطر الحارّ جدّاً، حلوة جدّاً. احتضن الساكسفون بين يديه وأعطى كلَّ ما في داخله من نفَس. كرّر مرتين العزف منفرداً، وهو يشعر بدموعه تترقرق دافئة على وجهه. ثم توقّف، وهو غير قادر على فتح عينيه، والنظر إلى الجمهور الذي كان يصفّق له. بسط جيم، عازف الغيتار، راحته على كتفه ولم يهمس له سوى بـ "عليك أن تذهب يا بارت".
مع عبور هدير درّاجة نارية، يستجمع بارت شتاته. يصوّب المهداف، ها هو ذا. يخلع الرجل خوذته، يعيد ترتيب شعره الفوضوي ثم يتّجه إلى مدخل المبنى. عدسة المهداف تمر على وجهه، وعلى سترته الجلدية، ثم تعود إلى وجهه، ثم كتلة غامضة، حركة سريعة.
على الجانب الآخر من الساحة، في أحد صالونات الهواء الطلق لأحد المحالّ، ها هو. روجيرو إياريا يجلس بهدوء، مع كوب من الشمبانيا في يده، يمسكه بين أصابعه الغليظة. شارب فوق فمه الجاف، وأنف معدّل جراحياً. الجراحة التجميلية جعلت التعرُّف إليه صعباً، ربما. لكن غطرسته هي التي جلبته إلى هنا ليرى ضحيته تموت دون أن يسعفها الوقت لتدرك ذلك. في تلك الليلة البعيدة، وهو يغيّر وجهة بندقيته حتى لا يرى وجه كلارا الهامد، لمح بارت سيارة مرسيدس متوقّفة في الظل، ليس بعيداً عن المنحدر حيث كانت سيّارة الهدف تنطلق. في مقعد الراكب كان يجلس إياريا، يضحك.
يتخذ بارت وضعية أفضل، يضع إصبعه على الزناد، يعدل شبكية عدسة المهداف قليلاً، زخّات المطر تعاود الهطول، دافئة كصوت كلارا، دافئة كعزف منفرد على الساكسفون. يضغط بارت بالكاد على الزناد.
بعد وقت قصير، بين الأضواء الزرقاء الوامضة، وبينما تُسحب جثّة إياريا في صندوق من الزنك، في الأزقة المظلمة القديمة من وراء الساحة، يتناهى إلى العقيد سودانو صدى صوت ساكسفون.
* Andrea Monticone كاتب إيطالي من مواليد 1972. كتب سلسلة من روايات "الثريلر" بطلها العقيد غابرييلي سودانو. من بين مؤلّفاته الروائية: "بلوز في مارسيليا"، و"آخر عالم لآكلي لحوم البشر"، وفي القصّة القصيرة: "يد الميت"، و"درو". إلى جانب عمله الأدبي عمل مونتيكوني لسنوات صحافياً بين تورينو وميلانو.
** ترجمة عن الإيطالية أمل بوشارب