معركة "ديو" البحرية عام 1509 و"الثأر المقدس"

12 مارس 2020
+ الخط -
لقرون سيطر العرب على طرق تجارية دولية، رابطة بين الشرق والغرب. فالعرب مع بدايات الفتح الإسلامي تمكنوا من رد الأوروبيين على أعقابهم وتقليم أظفارهم، سواء كانوا بيزنطيين أو روماً أو قوطاً شرقيين. ورغم أن بعضاً من ملوكها، أي أوروبا، استطاعوا استعادة بعض من جزرها في البحر المتوسط، وعلى رأسها جزيرة صقلية وقبرص، ووصلت بعض حملاتهم في بعض الحالات إلى سواحل الشام ومصر، وتمكنوا في إحداها من تأسيس عدد من الإمارات، على رأسها إمارة بيت المقدس، إلا أن المشرق العربي كان في كل مرة يردهم على أعقابهم مهزومين مندحرين.

ومع نهاية القرن الخامس عشر تبسّم القدر لأوروبا وملوكها. فغرناطة آخر معاقل العرب في شبه الجزيرة الأيبيرية - إسبانيا والبرتغال حالياً - تسقط عام 1492 تحت سنابك جيوش ملوك قشتالة وأراغون، وقبلها بسنوات قليلة كان الملاح البرتغالي "بارثولوميو دياز" قد اكتشف رأس الرجاء الصالح عام 1488، وفي سابقة تاريخية هي الأولى من نوعها، وصل الملاح البرتغالي "فاسكو دا جاما" عام 1498 إلى الساحل الهندي.

وعلى إثر نجاح حركة الملاحة البرتغالية التي انطلقت بالأساس بهدف إحداث اختراق ما لكسر هيمنة المشرق العربي على التجارة الدولية، ومنذ اليوم الأول لوصول بحارتها، أي البرتغال، إلى الهند، سعت إلى فرض هيمنتها على طرق التجارة الدولية، حيث أسست خلال فترة وجيزة ما بين عام (1500-1508) سلسلة من القواعد التجارية والمستعمرات من غرب أفريقيا إلى شرقها، وصولاً إلى سواحل الهند، وتوغلت أيضاً جنوب شبه الجزيرة العربية بعدما لامست رخاوتها، فسيطرت عام 1507 على مضيق هرمز وهددت بالاستيلاء على خليج عدن.


شكل التوسع البرتغالي المتسارع في المحيط الهندي، تجارياً وعسكرياً، وحتى سياسياً، واعتداءاته المتواصلة على القوافل والسفن التجارية في بحر العرب والمحيط الهندي، بالإضافة إلى تطلع البرتغال للوصول إلى البحر الأحمر والأماكن الإسلامية المقدسة بالحجاز، خطراً على عدد من دول والممالك المستفيدة من التجارة مع الشرق، وعلى رأسها دولة المماليك وجمهورية البندقية.

فدولة المماليك التي أنهت الوجود الصليبي (الأوروبي) في المشرق العربي بعد صراع مرير، لم تتوقع في أسوأ كوابيسها أن يساهم وصول البرتغاليين بهذه السرعة إلى الساحل الهندي في حرمانها عماد اقتصادها، القائم وقتها على عائدات الضرائب التي كانت تفرضها على التجارة القادمة من الشرق.

وأمام عجز دولة المماليك عن التصدي للخطر البرتغالي المتصاعد بسبب افتقارها إلى الأساطيل البحرية القوية، أوفدت جمهورية البندقية، التي لم تكن راغبة في وجود منافس تجاري قوي لها في القارة العجوز، وفودها لبناء تحالف يتصدى للوجود البرتغالي في الشرق.

وبالفعل، شُكِّل تحالف ضمّ المماليك والبنادقة والدولة العثمانية الفتية وقتها، وعلى إثر هذا التحالف أُرسِلَت في عام 1505 أول حملة بحرية مملوكية بقيادة الأمير "حسين الكردي"، نائب السلطان المملوكي "قانصوه الغوري" في جدة، وكان الهدف من الحملة مراقبة التحركات البحرية البرتغالية وحماية القوافل البحرية في بحر العرب والمحيط الهندي.

ورغم وجود الأسطول البحري المملوكي لرد عدوان البحرية البرتغالية، إلا أن الاعتداءات البرتغالية على القوافل البحرية زادت حدتها، وكادت أواخر عام 1507 أن تشلّ النشاط التجاري البحري المملوكي بالكامل، ما دفع "حسين الكردي" إلى التحرك بأسطوله صوب سواحل الهند بالقرب من مومباي، بعد التحالف مع سلطان جوجارات الهندية، واشتبك هناك مع البحرية البرتغالية وهزمها شرّ هزيمة في موقعة "شاول" أو "غوا" عام 1508، التي قُتل فيها "لورنزو" ابن الحاكم البرتغالي للمستعمرات الهندية "فرانشيسكو دي ألميد".

شكل مقتل "لورنزو" ابن "فرانشيسكو دي ألميد" نقطة تحول في مجريات الصراع الجاري في المحيط الهندي، إذ أقسم "فرانشيسكو دي ألميد" على الثأر لمقتل ابنه وللسمعة البحرية البرتغالية، وقد دفعه تعطشه الشديد للانتقام إلى رفض قرار ملك البرتغال "مانويل الأول" القاضي بعزله، فزجّ الحاكم الجديد الموكل من قبل الملك في السجن، وقضى "فرانشيسكو دي ألميد" الأشهر التي تلت هزيمة موقعة "شاول" في تتبع الأسطول المملوكي، متحيِّناً الفرصة المناسبة للمباغتة.

في أوائل شهر فبراير/شباط عام 1509، وبينما كان "حسين الكردي" ينتظر انتهاء موسم الأمطار للعودة إلى مصر، باغته الأسطول البحري البرتغالي بقيادة "فرانشيسكو دي ألميد"، وعلى أثرها التحمت البحرية البرتغالية والبحرية المملوكية في معركة حامية الوطيس قرب جزيرة ديو، بدأتها البحرية المملوكية خفيفة الحركة بعمليات كرّ وفرّ، إلا أن افتقار البحرية المملوكية إلى المدفعية الثقيلة والخبرة الكافية دفعها إلى التراجع للاحتماء بمدفعية جزيرة ديو، الأمر الذي سهل على البحرية البرتغالية الأكثر تطوراً تطويق البحرية المملوكية وتدميرها والاستيلاء على جزيرة ديو.

أصبح البرتغاليون بعد انتصارهم المدوي في معركة "ديو" أصحاب السيادة المطلقة على طرق التجارة الدولية، وشرعوا بالتمدد والاستيلاء على الموانئ البحرية المهمة واحدة تلو الأخرى مثل ممباسا ومسقط وكوا وسيلان، ما سمح لهم بتشكيل إمبراطورية يمتدّ نفوذها من اليابان شرقاً إلى البرازيل غرباً، وبذلك أحكموا سيطرتهم على تجارة التوابل والمنسوجات الحريرية الموردة إلى أوروبا قرابة مائة عام، وعبّدوا الطريق للقوى الأوروبية الأخرى كهولندا وإنكلترا وفرنسا لفرض السيطرة على البحار والمحيطات وتسيد العالم فيما بعد.

في الجهة المقابلة، كانت هزيمة المماليك في معركة "ديو" كارثية بكل ما تحمل الكلمة من معنىً، وضربة قاصمة للتجارة الدولية في المشرق العربي، وعلى أثرها فقد العرب والمماليك أهم عناصر قوتهم التي تفاخروا بها أمام العالم لقرون، وهو احتكارهم وتحكمهم المطلق بالطرق التجارية الدولية.

دلالات
4F8E0C37-3F8E-44E8-B648-FE320CF4039B
هيثم الجرو

مدون وقاص فلسطيني حاصل على شهادة في التاريخ والآثار من الجامعة الإسلامية بغزة، يحضّر رسالة الماجستير في التاريخ المعاصر بجامعة "إسطنبول مدينيت" في تركيا.