26 سبتمبر 2018
مصالح روسيّة جيوستراتيجيّة في أوكرانيا
"أينما توجّهت أوكرانيا، سنلتقي في مكان ما"... فلاديمير بوتين
يَعتبرُ الروسُ كييف، عاصمة أوكرانيا، "أمَّ المدن الروسية"، ومركزاً للحضارة الأرثوذكسية الشرقية. وأوكرانيا تعدُّ كذلك الدولة الثانية، بعد روسيا، من حيث الأهميّة الاستراتيجيّة للاتحاد السوفياتي الغابر. وهناك جذور حضارية وتاريخية واقتصادية وثقافية وعرقية ودينية عميقة، تربط روسيا بأوكرانيا ذات الـ46 مليون مواطن.
وعلى الرغم من تمكّن أوكرانيا من تحديد هويتها الوطنية، في القرن التاسع عشر، إلا أن الطابع الديموغرافي بقي، بشكلٍ أساسيّ، خليطاً من الشعبين الروسي والأوكراني، وتمكّنت أوكرانيا، ضمن الاتحاد السوفياتي، من تبوّء المرتبة الثانية، من حيث الإنتاج والصناعة، بعد روسيا. لذا، فإنّ الحضور الروسيّ ممتدّ ومتجذّر في العمق الأوكراني، ويبدو الطلاق بين البلدين مستحيلاً، وهناك ضرورة قصوى لحلّ مشكلات عديدة عالقة، ليس فقط على صعيد الحوار السياسي المشترك بين البلدين، ولكن، على الصعيد الجيوسياسي الإقليمي كذلك.
لا يمكن تجاهل الأثر الجيوسياسي للحقبة الاشتراكية في هذا الملف، حيث ضم الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروتشوف، ذو الأصول الأوكرانية، شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا في العام 1954، وأُسستْ قاعدةٌ عسكرية بحرية على ميناء سيفاستوبول، المطلّ على البحر الأسود. وعلى الرغم من جدلٍ قانونيٍّ بشأن ضمّ القرم إلى أوكرانيا، إلا أنّ كييف وافقت على أن يتمتع هذا الإقليم بحكم ذاتي في تسعينيات القرن الماضي، أخذاً بالاعتبار أن الإمبراطورة إكاترينا العظمى أعلنت القرم حزءاً لا يتجزّأ من روسيا وإلى الأبد، في العام 1783، لكنّ العقيدة الشيوعية ألغت، في أوج سلطتها، الفروق الشعبية والقومية بين دول الاتحاد، ما سمح بالتغاضي عن وضعية القرم، باعتبار كامل أوكرانيا جزءاً من الاتحاد السوفياتي الأم.
قاعدة سيفاستوبول العسكرية
تتمتع شبه جزيرة القرم بحكم ذاتي، خلافاً لمدينة سيفاستوبول، الخاضعة للإدارة الروسية مباشرة، وتمكّن الكرملين، في العام 2010، وبعد محادثات مضنية، من تمديد اتفاقية سيطرة موسكو على القاعدة حتى العام 2042، ما اعتبر انتصاراً كبيراً لروسيا، الأمر الذي حثّ المعارضة الأوكرانية على انتقاد هذه المعاهدة، ورفضها، واعتبارها مجحفة، وتمسّ بسيادة أوكرانيا. وعمل الغرب وحلف الناتو على تحريض المعارضة ضدّ السلطة الحاكمة في كييف، واعتبر خبراء عديدون الاتفاقية أحد العوامل الأساسيّة التي أدّت إلى اشتعال الثورة ضدّ الرئيس فكتور يانوكوفيتش، ما أدّى، في نهاية المطاف، إلى سقوطه وهربه إلى موسكو. عدا عن أن دول حلف الناتو شجّعت تركيا، ودعمت في العقد الأخير، مالياً وسياسياً، توجّهات حصول الأقليّة التتريّة على الحكم الذاتي. وإذا كان الصراع الحالي في أوكرانيا بين الأوكرانيين والروس، فإن الصراع في الحقب الماضية كان بين هاتين الفئتين من جهة، والتتر المسلمين السنّة، من جهة أخرى، وهم الأقليّة التي طُردت وهُجّرت في حقبة حكم الزعيم السوفياتي جوزف ستالين، وقضى قرابة 100 ألف مسلم تتري من 1948 إلى 1954، لمشاركتهم في الحرب العالمية الثانية ضدّ جيوش ستالين.
استمر الصراع بين البلدين الجارين، كذلك بشأن السيادة على المياه الإقليمية، فيما اللقاء الذي جمع يانوكوفتيش وبوتين عام 2012 مكّن الأخير من توقيع اتفاقية تسمح لروسيا بالسيطرة على الخطّ البحري لمرور قواتها عبر مياه بحر آزوف المتفرّع من البحر الأسود. وقرأ "الناتو"، بدوره، الانتصار الجديد لروسيا مدركاً الأهميّة الاستراتيجيّة لهذا الإقليم. ولن تسمح روسيا، بغضّ النظر عن ردود الفعل الأوروبية وحلف الناتو، بخفض حجم نفوذها في المناطق المطلة على البحر الأسود، لأنّها ضرورية لتنفيذ مشاريعها، المتعلقة بقطاع الطاقة ونقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، عدا عن أهميّتها العسكريّة.
أوكرانيا ومشاريع الطاقة الروسية
تعتمدُ أوكرانيا، بشكل رئيسيّ، على الغاز الطبيعي الروسي في اقتصادها، وتشغيل العجلة الصناعيّة، وتنقل كميات كبيرة من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا، لكنّ أوكرانيا التي تعاني من مشكلات اقتصادية عديدة ومن العجز المالي، لم تتمكن من دفع استحقاقات شركة "غازبروم" المالية، وتدين حالياً بنحو مليار ونصف مليار دولار عن العام 2013 مستحقات للشركة الروسية. واضطرت روسيا إلى خفض كميات الغاز المصدّرة عبر أوكرانيا إلى أوروبا في السنوات القليلة الماضية، لتحصيل ديونها، ما أدّى إلى اندلاع أزمة طاقة في معظم دول الاتحاد الأوروبي.
وقدّمت أوكرانيا لروسيا أسلحة تقليدية ونووية من مخلّفات الحقبة السوفياتية، لتسديد جزء من هذه الديون. وحاولت روسيا، كذلك، شراء أصول شركات الطاقة الأوكرانية، لتعويض الديون المتراكمة، كما الحال مع دول اشتراكية عديدة سابقة، منها بلغاريا، ما يعني حرمان هذه الدول من سيادتها الوطنية على أهمّ القطاعات الحيويّة ـ قطاع الطاقة، إلا أنّ هذه المحاولات باءت بالفشل حتّى اللحظة.
حاولت رئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشنكو، في العام 2009، إيجادَ حلّ إيجابيّ لأزمة الطاقة، واتّفقت مع المنظومة الأوروبية لتمويل مشروع تنمية وتطوير شبكة الطاقة ونقل الغاز الأوكراني، بكلفة 2.5 مليار يورو، وإنجاز المشروع حتى العام 2016، بتمويل من بنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية والتطوير الأوروبي والبنك الدولي. لكنّ روسيا، الراغبة بإقصاء أيّ تدخل أوروبي خارجي قد يؤثر على احتكارها المطلق لنقل الغاز إلى أقصى أنحاء أوروبا، لعبت دوراً رئيسياً في قلب الطاولة على السيدة تيموشنكو، والتي أودعت السجن سبع سنوات بقرار من المحكمة، وفشل الاتحاد الأوروبي الذي تدخّل، بكلّ ثقله السياسي الممكن، في الشفاعة لها، وإخراجها من السجن، وتلقّي العلاج في ألمانيا.
استمرّ الضغط الروسي على الحكومة الأوكرانية، وخضع الرئيس يانوكوفيتش، في نهاية المطاف، لهذه الضغوط، بدءاً برفض المصادقة على اتفاقية التعاون التجاري والسياسي مع الاتحاد الأوروبي، مفضّلاً التوجه إلى موسكو، وطلب المساعدة من بوتين الذي أغرقه بالهدايا، ووعده بتقديم الدعم المالي، وخفض أسعار الغاز الطبيعيّ المصدّر لأوكرانيا، ما أدّى إلى ارتفاع معدّلات السخط والتمرّد لدى المعارضة الأوكرانية، ذات التوجهات الأوروبية، واتهام يانوكوفيتش بالتفريط بالمصالح الوطنية لأوكرانيا. وأدت هذه العوامل مجتمعة، إلى اندلاع الثورة في كييف، سقط في غضونها عشرات القتلى، وأجبر الرئيس يانوكوفيتش على الهرب إلى موسكو. وبهذا، لم تنته مشكلات أوكرانيا، بل يمكن القول إنّها بدأت على أرض الواقع، فالخزينة شبه فارغة، والديون المتراكمة هائلة للغاية، وهناك حاجّة ملّحة للحصول على 4 مليارات يورو، على الأقل، كي لا تعلن البلاد إفلاسها. وكانت روسيا على أتمّ الاستعداد لتقديم هذه الأموال، بدلاً من المطالبة بديونها، قبل اندلاع الثورة، والتمرّد ضدّ الوجود والنفوذ الروسي. وتدرك روسيا جيّداً أنّ الاتحاد الأورو ـ آسيوي، والذي تترأسه، غير قابل للبقاء من دون أوكرانيا، ولن تلتزم روسيا وحلفاؤها بوثيقة حقوق الإنسان واعتماد آليات الديموقراطية، كما تطالب بذلك أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
وتدرك روسيا أنّ "الناتو" لن يحرّك جيوشه لفرض هذه المبادئ، والدفاع عن أوكرانيا والوقوف في وجه الآلة العسكرية الروسية. وكان الغرب و"الناتو" قد صعّدا، إلى وقت قريب، مظاهر الحرب الباردة، وهدّدا بفرض العقوبات، لكنّ نفوذ روسيا في أوكرانيا، وسيطرتها على القرم، شأنٌ لا يقبل النقاش، ولا مبرر ولا ضرورة لاندلاع حرب جديدة، لتحديد تبعية شبه جزيرة القرم، لأنّها خاضعة، عملياً، للنفوذ العسكري الروسي، بمباركة غالبية الشعب في هذا الإقليم الذي يزيد تعداد سكانه على مليوني مواطن.
الدور الأوروبي ما بعد الثورة
طموح أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مشروع، ولا يمكن حرمان هذه الدولة من حقّها بتحديد المصير. لكن، هناك عوامل جيوسياسية تفرض جدول أعمالٍ يختلف عن الأهواء الشعبية. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ نسبة كبيرة من الشعب الأوكراني يرفض الانفصال عن الفلك الروسي، ويرى أنّ مصالح أوكرانيا الاستراتيجية مرتبطة بروسيا، في وقت يعتبر الاتحاد الأوروبي أوكرانيا دولةً مركزية في التحالف الشرقي. لذا، سارع إلى تقديم الدعم المالي، واقترح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، إلمار بروك، تقديم مساعداتٍ ماليةٍ، بقيمة 20 مليار دولار، حال بدء أوكرانيا عمليات الإصلاح المطلوبة، وأضاف كذلك أنّ الاتحاد الأوروبي لن يسمح بإفلاس هذه الدولة.
لم يتأخر الردّ الروسي على الانقلاب الأخير في أوكرانيا كثيراً، وحصل الرئيس فلاديمير بوتين على تفويضٍ من مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي، لاستخدام القوات العسكرية الروسية. وبات بإمكان الرئيس الحديديّ تحريك قواته الموجودة في سيفاستوبول، لفرض السيطرة المطلقة على شبه جزيرة القرم، ولن تقوى أية قوّة أجنبية، بما في ذلك "الناتو"، على الوقوف في وجه هذه القوات، المتمركزة في الإقليم منذ عقود طويلة، وكأنّ مقولة الإمبراطورة إكاترينا، التي اعتبرت القرم جزءاً أبدياً من روسيا، تحققت.
أدرك الملاكم الشهير فيتالي كليتشكو، زعيم الحزب الديموقراطي، المعارض لوقت قريب: "ضربة"، بعد الانقلاب الدموي في كييف، أنّ أوكرانيا، المفلسة من الناحية العملية، ستجد نفسها وحيدة في وجه الدبّ الروسي. لذا، طالب بالتهدئة، وقال إنّ هناك ضرورة ملحّة لمزيد من الاستشارات والمحادثات مع روسيا لحلّ الأزمة بطرق سلمية، ووقف طبول الحرب. وتوجّه لمواطني القرم وشرق البلاد، مؤكّداً عدم وجود أيّة توجّهات للحدّ من حقوقهم الدستورية.
كل السيناريوهات مفتوحة في الملف الأوكراني. لكن، هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها، تتمثّل بحضور روسيٍ قويّ في شمال أوكرانيا، بل ويبدو منطقياً، إذ يحصل على دعمٍ ملحوظٍ من نحو 10 ملايين مواطن، كما أن هناك حضوراً روسياً في شرق البلاد أيضاً، حيث تتمركز القاعدة الصناعيّة الأساسيّة لأوكرانيا التي تضمن جزءاً كبيراً من إجماليّ الناتج القومي لهذه الدولة. لذا، يتوجب على أوكرانيا أن تتعامل مع هذا الواقع بحذر، لتفادي الوقوع في أزمة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخها المعاصر.
يَعتبرُ الروسُ كييف، عاصمة أوكرانيا، "أمَّ المدن الروسية"، ومركزاً للحضارة الأرثوذكسية الشرقية. وأوكرانيا تعدُّ كذلك الدولة الثانية، بعد روسيا، من حيث الأهميّة الاستراتيجيّة للاتحاد السوفياتي الغابر. وهناك جذور حضارية وتاريخية واقتصادية وثقافية وعرقية ودينية عميقة، تربط روسيا بأوكرانيا ذات الـ46 مليون مواطن.
وعلى الرغم من تمكّن أوكرانيا من تحديد هويتها الوطنية، في القرن التاسع عشر، إلا أن الطابع الديموغرافي بقي، بشكلٍ أساسيّ، خليطاً من الشعبين الروسي والأوكراني، وتمكّنت أوكرانيا، ضمن الاتحاد السوفياتي، من تبوّء المرتبة الثانية، من حيث الإنتاج والصناعة، بعد روسيا. لذا، فإنّ الحضور الروسيّ ممتدّ ومتجذّر في العمق الأوكراني، ويبدو الطلاق بين البلدين مستحيلاً، وهناك ضرورة قصوى لحلّ مشكلات عديدة عالقة، ليس فقط على صعيد الحوار السياسي المشترك بين البلدين، ولكن، على الصعيد الجيوسياسي الإقليمي كذلك.
لا يمكن تجاهل الأثر الجيوسياسي للحقبة الاشتراكية في هذا الملف، حيث ضم الزعيم السوفياتي، نيكيتا خروتشوف، ذو الأصول الأوكرانية، شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا في العام 1954، وأُسستْ قاعدةٌ عسكرية بحرية على ميناء سيفاستوبول، المطلّ على البحر الأسود. وعلى الرغم من جدلٍ قانونيٍّ بشأن ضمّ القرم إلى أوكرانيا، إلا أنّ كييف وافقت على أن يتمتع هذا الإقليم بحكم ذاتي في تسعينيات القرن الماضي، أخذاً بالاعتبار أن الإمبراطورة إكاترينا العظمى أعلنت القرم حزءاً لا يتجزّأ من روسيا وإلى الأبد، في العام 1783، لكنّ العقيدة الشيوعية ألغت، في أوج سلطتها، الفروق الشعبية والقومية بين دول الاتحاد، ما سمح بالتغاضي عن وضعية القرم، باعتبار كامل أوكرانيا جزءاً من الاتحاد السوفياتي الأم.
قاعدة سيفاستوبول العسكرية
تتمتع شبه جزيرة القرم بحكم ذاتي، خلافاً لمدينة سيفاستوبول، الخاضعة للإدارة الروسية مباشرة، وتمكّن الكرملين، في العام 2010، وبعد محادثات مضنية، من تمديد اتفاقية سيطرة موسكو على القاعدة حتى العام 2042، ما اعتبر انتصاراً كبيراً لروسيا، الأمر الذي حثّ المعارضة الأوكرانية على انتقاد هذه المعاهدة، ورفضها، واعتبارها مجحفة، وتمسّ بسيادة أوكرانيا. وعمل الغرب وحلف الناتو على تحريض المعارضة ضدّ السلطة الحاكمة في كييف، واعتبر خبراء عديدون الاتفاقية أحد العوامل الأساسيّة التي أدّت إلى اشتعال الثورة ضدّ الرئيس فكتور يانوكوفيتش، ما أدّى، في نهاية المطاف، إلى سقوطه وهربه إلى موسكو. عدا عن أن دول حلف الناتو شجّعت تركيا، ودعمت في العقد الأخير، مالياً وسياسياً، توجّهات حصول الأقليّة التتريّة على الحكم الذاتي. وإذا كان الصراع الحالي في أوكرانيا بين الأوكرانيين والروس، فإن الصراع في الحقب الماضية كان بين هاتين الفئتين من جهة، والتتر المسلمين السنّة، من جهة أخرى، وهم الأقليّة التي طُردت وهُجّرت في حقبة حكم الزعيم السوفياتي جوزف ستالين، وقضى قرابة 100 ألف مسلم تتري من 1948 إلى 1954، لمشاركتهم في الحرب العالمية الثانية ضدّ جيوش ستالين.
استمر الصراع بين البلدين الجارين، كذلك بشأن السيادة على المياه الإقليمية، فيما اللقاء الذي جمع يانوكوفتيش وبوتين عام 2012 مكّن الأخير من توقيع اتفاقية تسمح لروسيا بالسيطرة على الخطّ البحري لمرور قواتها عبر مياه بحر آزوف المتفرّع من البحر الأسود. وقرأ "الناتو"، بدوره، الانتصار الجديد لروسيا مدركاً الأهميّة الاستراتيجيّة لهذا الإقليم. ولن تسمح روسيا، بغضّ النظر عن ردود الفعل الأوروبية وحلف الناتو، بخفض حجم نفوذها في المناطق المطلة على البحر الأسود، لأنّها ضرورية لتنفيذ مشاريعها، المتعلقة بقطاع الطاقة ونقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، عدا عن أهميّتها العسكريّة.
أوكرانيا ومشاريع الطاقة الروسية
تعتمدُ أوكرانيا، بشكل رئيسيّ، على الغاز الطبيعي الروسي في اقتصادها، وتشغيل العجلة الصناعيّة، وتنقل كميات كبيرة من الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا، لكنّ أوكرانيا التي تعاني من مشكلات اقتصادية عديدة ومن العجز المالي، لم تتمكن من دفع استحقاقات شركة "غازبروم" المالية، وتدين حالياً بنحو مليار ونصف مليار دولار عن العام 2013 مستحقات للشركة الروسية. واضطرت روسيا إلى خفض كميات الغاز المصدّرة عبر أوكرانيا إلى أوروبا في السنوات القليلة الماضية، لتحصيل ديونها، ما أدّى إلى اندلاع أزمة طاقة في معظم دول الاتحاد الأوروبي.
وقدّمت أوكرانيا لروسيا أسلحة تقليدية ونووية من مخلّفات الحقبة السوفياتية، لتسديد جزء من هذه الديون. وحاولت روسيا، كذلك، شراء أصول شركات الطاقة الأوكرانية، لتعويض الديون المتراكمة، كما الحال مع دول اشتراكية عديدة سابقة، منها بلغاريا، ما يعني حرمان هذه الدول من سيادتها الوطنية على أهمّ القطاعات الحيويّة ـ قطاع الطاقة، إلا أنّ هذه المحاولات باءت بالفشل حتّى اللحظة.
حاولت رئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشنكو، في العام 2009، إيجادَ حلّ إيجابيّ لأزمة الطاقة، واتّفقت مع المنظومة الأوروبية لتمويل مشروع تنمية وتطوير شبكة الطاقة ونقل الغاز الأوكراني، بكلفة 2.5 مليار يورو، وإنجاز المشروع حتى العام 2016، بتمويل من بنك الاستثمار الأوروبي وبنك التنمية والتطوير الأوروبي والبنك الدولي. لكنّ روسيا، الراغبة بإقصاء أيّ تدخل أوروبي خارجي قد يؤثر على احتكارها المطلق لنقل الغاز إلى أقصى أنحاء أوروبا، لعبت دوراً رئيسياً في قلب الطاولة على السيدة تيموشنكو، والتي أودعت السجن سبع سنوات بقرار من المحكمة، وفشل الاتحاد الأوروبي الذي تدخّل، بكلّ ثقله السياسي الممكن، في الشفاعة لها، وإخراجها من السجن، وتلقّي العلاج في ألمانيا.
استمرّ الضغط الروسي على الحكومة الأوكرانية، وخضع الرئيس يانوكوفيتش، في نهاية المطاف، لهذه الضغوط، بدءاً برفض المصادقة على اتفاقية التعاون التجاري والسياسي مع الاتحاد الأوروبي، مفضّلاً التوجه إلى موسكو، وطلب المساعدة من بوتين الذي أغرقه بالهدايا، ووعده بتقديم الدعم المالي، وخفض أسعار الغاز الطبيعيّ المصدّر لأوكرانيا، ما أدّى إلى ارتفاع معدّلات السخط والتمرّد لدى المعارضة الأوكرانية، ذات التوجهات الأوروبية، واتهام يانوكوفيتش بالتفريط بالمصالح الوطنية لأوكرانيا. وأدت هذه العوامل مجتمعة، إلى اندلاع الثورة في كييف، سقط في غضونها عشرات القتلى، وأجبر الرئيس يانوكوفيتش على الهرب إلى موسكو. وبهذا، لم تنته مشكلات أوكرانيا، بل يمكن القول إنّها بدأت على أرض الواقع، فالخزينة شبه فارغة، والديون المتراكمة هائلة للغاية، وهناك حاجّة ملّحة للحصول على 4 مليارات يورو، على الأقل، كي لا تعلن البلاد إفلاسها. وكانت روسيا على أتمّ الاستعداد لتقديم هذه الأموال، بدلاً من المطالبة بديونها، قبل اندلاع الثورة، والتمرّد ضدّ الوجود والنفوذ الروسي. وتدرك روسيا جيّداً أنّ الاتحاد الأورو ـ آسيوي، والذي تترأسه، غير قابل للبقاء من دون أوكرانيا، ولن تلتزم روسيا وحلفاؤها بوثيقة حقوق الإنسان واعتماد آليات الديموقراطية، كما تطالب بذلك أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
وتدرك روسيا أنّ "الناتو" لن يحرّك جيوشه لفرض هذه المبادئ، والدفاع عن أوكرانيا والوقوف في وجه الآلة العسكرية الروسية. وكان الغرب و"الناتو" قد صعّدا، إلى وقت قريب، مظاهر الحرب الباردة، وهدّدا بفرض العقوبات، لكنّ نفوذ روسيا في أوكرانيا، وسيطرتها على القرم، شأنٌ لا يقبل النقاش، ولا مبرر ولا ضرورة لاندلاع حرب جديدة، لتحديد تبعية شبه جزيرة القرم، لأنّها خاضعة، عملياً، للنفوذ العسكري الروسي، بمباركة غالبية الشعب في هذا الإقليم الذي يزيد تعداد سكانه على مليوني مواطن.
الدور الأوروبي ما بعد الثورة
طموح أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مشروع، ولا يمكن حرمان هذه الدولة من حقّها بتحديد المصير. لكن، هناك عوامل جيوسياسية تفرض جدول أعمالٍ يختلف عن الأهواء الشعبية. وهنا، تجدر الإشارة إلى أنّ نسبة كبيرة من الشعب الأوكراني يرفض الانفصال عن الفلك الروسي، ويرى أنّ مصالح أوكرانيا الاستراتيجية مرتبطة بروسيا، في وقت يعتبر الاتحاد الأوروبي أوكرانيا دولةً مركزية في التحالف الشرقي. لذا، سارع إلى تقديم الدعم المالي، واقترح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي، إلمار بروك، تقديم مساعداتٍ ماليةٍ، بقيمة 20 مليار دولار، حال بدء أوكرانيا عمليات الإصلاح المطلوبة، وأضاف كذلك أنّ الاتحاد الأوروبي لن يسمح بإفلاس هذه الدولة.
لم يتأخر الردّ الروسي على الانقلاب الأخير في أوكرانيا كثيراً، وحصل الرئيس فلاديمير بوتين على تفويضٍ من مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي، لاستخدام القوات العسكرية الروسية. وبات بإمكان الرئيس الحديديّ تحريك قواته الموجودة في سيفاستوبول، لفرض السيطرة المطلقة على شبه جزيرة القرم، ولن تقوى أية قوّة أجنبية، بما في ذلك "الناتو"، على الوقوف في وجه هذه القوات، المتمركزة في الإقليم منذ عقود طويلة، وكأنّ مقولة الإمبراطورة إكاترينا، التي اعتبرت القرم جزءاً أبدياً من روسيا، تحققت.
أدرك الملاكم الشهير فيتالي كليتشكو، زعيم الحزب الديموقراطي، المعارض لوقت قريب: "ضربة"، بعد الانقلاب الدموي في كييف، أنّ أوكرانيا، المفلسة من الناحية العملية، ستجد نفسها وحيدة في وجه الدبّ الروسي. لذا، طالب بالتهدئة، وقال إنّ هناك ضرورة ملحّة لمزيد من الاستشارات والمحادثات مع روسيا لحلّ الأزمة بطرق سلمية، ووقف طبول الحرب. وتوجّه لمواطني القرم وشرق البلاد، مؤكّداً عدم وجود أيّة توجّهات للحدّ من حقوقهم الدستورية.
كل السيناريوهات مفتوحة في الملف الأوكراني. لكن، هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها، تتمثّل بحضور روسيٍ قويّ في شمال أوكرانيا، بل ويبدو منطقياً، إذ يحصل على دعمٍ ملحوظٍ من نحو 10 ملايين مواطن، كما أن هناك حضوراً روسياً في شرق البلاد أيضاً، حيث تتمركز القاعدة الصناعيّة الأساسيّة لأوكرانيا التي تضمن جزءاً كبيراً من إجماليّ الناتج القومي لهذه الدولة. لذا، يتوجب على أوكرانيا أن تتعامل مع هذا الواقع بحذر، لتفادي الوقوع في أزمة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخها المعاصر.