محكمة الجنايات الدولية والعدالة المستحقّة

14 ديسمبر 2017

صور أمام محكمة الجنايات الدولية لضحايا بوسنيين (22/11/الأناضول)

+ الخط -
يرتبط اسم مدينة لاهاي الهولندية بمفهوم العدالة المفقودة على الصعيد الدولي، خصوصا التي شهدتها يوغوسلافيا السابقة ورواندا وسورية، وكذا دول أفريقية عديدة، في وقتٍ تعاني فيه شعوب عديدة، من عدم فعالية القوانين وتعذّر محاكمة مجرمي الحروب والمتورّطين في عمليات إبادة جماعية، وقصور محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة. من المعروف كذلك أنّ المجرمين والسفّاحين يتمكّنون من الإفلات من المحاكم الوطنية بعد مضي عقد، بحكم التقادم، وتنطوي الملفّات القضائية إلى أجلٍ غير مسمّى. وعلى الرغم من هذه الخاصّية القضائية، تصرّ دول أوروبية، مثل هولندا والسويد وألمانيا، على إحياء هذ القضايا، لتقديم المتورطين في عمليات القتل الجماعية في الحروب الأهلية للعدالة. وتبذل المحاكم المعنيّة لاحقًا جهودا كبيرة لملاحقة المجرمين وإصدار أحكام حقيقية نافذة بحقّهم، كما شاهدنا في السنوات القليلة الماضية. وقد أثبتت المحاكم الدولية، وما تزال تفعل، أنّ القتل الجماعي وإرهاب الشعوب جرائم لا يمكن الهرب من تبعاتها دومًا، أينما حلّ المعنيون، أو هربوا باتجاه دول محادية وقارات بعيدة.

عمليات إبادة جماعية
رواندا هي إحدى الدول التي عانت كثيرًا من تبعات (وآثار) عمليات الإبادة الجماعية البشعة التي شهدتها عام 1994، والتي أسفرت عن مقتل نحو 800 ألف مواطن، معظمهم من قبائل التوتسي، والإقدام على اغتصاب مئات آلاف من نساء القبيلة، أنجزت في فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز نحو مائة يوم. حسب بيانات منظمة حقوق الإنسان، قضي على قرابة 20% من سكّان رواندا بمعدّل شخص لكلّ ثانية. وبعد انقضاء عام، استيقظت الحضارة الأوروبية على مجزرة سربرنيتسا التي شهدت مقتل ما يزيد على ثمانية آلاف مسلم في البوسنة خلال شهر يوليو/ تموز عام 1995، بإشراف الجنرال الصربي، رادوفان كاراديتش، وغيره من المتعاونين القوميين المتطرفين.
ليست هذه البيانات جديدة ومعروفة للمهتمين، وقد مضى على تلك الأحداث ما يزيد على 
العقدين، لكنّ الدول المعنية بملاحقة المجرمين أبقت على رغبتها بتطهير القارّة الأوروبية من مجرمي الحرب، والإبقاء على المنظومة الأخلاقية المتعارف عليها منذ قرون طويلة في أوروبا، وفي مقدمتها سمات التسامح والنهج الديمقراطي والتعايش السلمي بين الأقليات. في هذا السياق، يتحرّى القضاة والمحقّقون جمع الأدلة، ليس فقط من الناجين من الحروب الشعبية وعمليات الإبادة الجماعية، بل من مصادرها، ومن خلال الصحف القديمة والوثائق، وحتّى عبر رصد الأشرطة ومقاطع الفيديو في وسائل التواصل الاجتماعي، "فيسبوك" و"يوتيوب" وغيرهما. عودة إلى مجزرة رواندا، التي ارتكبت بحرفية بالغة، وبتدبير وإرادة حكومية منظّمة على أعلى المستويات، حيث أشرفت الحكومة والمحافظات المركزية وقادة المراكز الأمنية على نشر الأسلحة، ومنح ستمئة ألف منجل، استخدمت لقتل قبائل التوتسي وإبادتها، على خلفية اغتيال الرئيس بإسقاط طائرته، وبمعرفة قوات الأمم المتّحدة لحفظ السلام، بل ومقتل عشرة مقاتلين من البعثة البلجيكية ضمن هذه القوات في رواندا، والتمثيل بأجسادهم قبل بدء المجزرة، ما يدلّ على قصور الدور الأممي للحيلولة دون اقتراف المجزرة البشرية البشعة. وقد رفض الرئيس الأميركي، بيل كلينتون، آنذاك، التدخّل العسكري في الشأن الداخلي لرواندا، واعترف لاحقًا بأنّ قرار إدارته كان سلبيًا وخاطئًا للغاية، لكن هذا لم يمنع من استمرار القصور الدولي لوقف المجازر في سورية خلال السنوات الأخيرة، وتدخّل قوى عظمى لتعطيل قرارات مجلس الأمن لإدانة النظام السوري والمسؤولين عن ترهيب المواطنين في سورية وإبادتهم، وقذفهم بالبراميل المتفجّرة واستخدام الأسلحة الكيميائية، وغيرها من أساليب القتل والترويع والتهجير.

المحكمة الجنائية الدولية
وقد أتاح تأسيس هذه المحكمة في لاهاي توسيع دائرة ملاحقة المجرمين والطغاة ومقاضاتهم، خصوصا المجازر المروّعة التي شهدتها يوغوسلافيا السابقة، واعتبار المحكمة بصيص أمل في طريق إحقاق العدالة، تزامنًا مع فشل مجلس الأمن في فرض أمنه الموعود فوق البقع السوداء المحروقة في آسيا وأفريقيا والبلقان. وقد تزامن تأسيس المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عام 1993 مع انتهاء مرحلة الحرب الباردة، وانهيار المنظومة الاشتراكية، وتراجع الدور والتأثير الدولي لروسيا قبل بدء مرحلة الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. وقد تمكّنت المحكمة من جلب عديدين من مجرمي الحروب الأهلية، وإصدار ما يزيد على 160 مذكّرة جلب، وإعلان أحكام نافذة بحقّ جنرالات يوغوسلافيا الذين تلوّثت أياديهم بدماء الأبرياء، تماشيًا مع الرغبة الأوروبية الساعية إلى دمج الدول الناشئة في غرب البلقان، بعد تفكيك يوغوسلافيا السابقة.
أهمّ القضايا التي تناولتها المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لملاحقة المتورّطين في جرائم الإبادة الجماعية ضدّ المسلمين في البوسنة والهرسك، قضية الجنرال راتكو ملاديتش، الذي توفّي خلال العام الماضي 2016 بعد تعرّضه لأزمات قلبية وجلطات دماغية عن عمر يناهز 73 سنة. ملاديتش تمكّن من الاختفاء عن الأنظار طوال 16 سنة، قبل أن يقبض عليه في صربيا عام 2011، وتقديمه للمحكمة المعنية بجرائم يوغوسلافيا في وقت لاحق من العام نفسه. ليصدر بحقّه حكم بالسجن مدى الحياة في العام 2012، بعد أن أقرّت المحاكم الدولية بأنّ مجزرة سربرنيتسا في البوسنة عملية تطهير عنصري وإبادة جماعية ضدّ سكّان المدينة المسلمين.
كما قدّم سلوبودان ميلوسيفيتش، الرئيس الصربي الأسبق، للمحكمة المختصة بجرائم جمهورية يوغوسلافيا السابقة في لاهاي عام 2001. واستمرّت محاكمته لما تبقّى من حياته خلال 
السنوات الخمس التالية، حيث توفّي في سجنه عام 2006، ليصدر حكم بتبرئته من جرائم الإبادة من المحكمة نفسها عام 2017، والتنويه في قرار الحكم إلى حقيقة خرق ميلوسيفيتش لاتفاقية الإبادة الجماعية، وعدم التعاون مع المحكمة لإدانة المتّهمين في هذه الجرائم.
تتمثل القضية التي تركت ردود فعلٍ عديدة على الصعيد الدولي بقرار تبرئة الزعيم القومي الراديكالي، فويسلاف شيشيل، من كل التهم الموجّهة ضدّه، وأهمّها ترويج الكراهية على خلفية دينية، والدعوة إلى ارتكاب عمليات قتل وإبادة جماعية، والتخطيط لاحتلال مدن في البوسنة والهرسك، بمشاركة قوى وطنية وقومية ومحاولة التنسيق مع الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، لتنفيذ هذه الخطط. وقد سلّم شيشيل نفسه طواعية للمحكمة عام 2003، واستمرت أعمال محاكمته اثنتي عشرة سنة. وأخيرًا، صدر حكم براءته، شريطة تخلّيه عن النشاطات السياسية العلنية، وكان الادّعاء قد طالب بسجنه 28 سنة، لكنه لم يلتزم بالقرار بعد خروجه من السجن، وسرعان ما تزعّم ثانية الحزب الراديكالي القومي، وأبدى رغبة بخوض الانتخابات البرلمانية في صربيا عام 2016. وهو كغيره من الزعماء القوميين الصرب، لم يتخلّ لحظة واحدة عن فكرة إقامة دولة صربيا العظمى. لكنّ يبدو أنّ الأجواء السياسية قد تغيّرت أخيرا في هذا البلد، أملا بتسريع انضمامه للاتحاد الأوروبي، والاستفادة من صناديق الدعم لتطوير وتحديث بناه التحتية، بالتزامن مع بدء الرئاسة الدورية لجمهورية بلغاريا، الجارة للمجلس الأوروبي، خلال النصف الأول من العام 2018، ورومانيا خلال النصف الأول من العام 2019، وتوقّع دعم الدولتين الجارتين للمطالب الصربية.

سلوبودان برالياك يتجرّع السمّ
قبل أن يبدأ مسيرته العسكرية جنرالا في الجيش الكرواتي من 1992 إلى 1995، والمشاركة في عمليات الإبادة الجماعية ضدّ الأقليات المسلمة، عمل سلوبودان برالياك في مجال الإخراج المسرحي في مدينة زغرب، وقد أنهى دراسة فنّ الإخراج والدراما عام 1972. لذا أقدم على خطوةٍ مدروسة مسبقًا، لإحداث أثر شعبي ودولي كبير، خلال أعمال الجلسة الأخيرة للمحكمة الجنائية الدولية التي أكّدت الحكم عليه بالسجن 20 عامًا، لتورّطه في أعمال قتل وإبادة جماعية، حيث تجرّع مادّة السيانيد القاتلة، للتعبير عن رفضه قرار المحكمة واحتقاره، وليكسب بذلك تعاطفًا شعبيًا كبيرًا في بلاده، باعتباره بطلًا قوميًا.
حسب تصريحات داركو ملاديتش، نجل الجنرال راتكو ملاديتش، عرض سلوبودان برالياك على والده تجرّع السمّ أمام القضاة، تعبيرًا عن رفضه قرار المحكمة، لكنّ الأخير رفض الفكرة باعتبارها هروبًا من الواقع، ما يدلّ على تحضير برالياك لهذا المشهد منذ وقتٍ طويل، وتمكّنه بسهولة من حمل العبوة الصغيرة ذات السائل المميت في جيبه خلال أعمال جلسة الختام النهائية لجرائم يوغوسلافيا السابقة. وعلى الرغم من طلب الإسعاف الفوري لإنقاذ حياة برالياك، إلا أنّه توفي لاحقًا في المستشفى، تاركًا خلفه تساؤلات وردود فعل عديدة، كما أراد وتمنّى، حيث غادر رئيس الوزراء الكرواتي، أندريه بلنكوفيتش، إلى البوسنة، بعد إعلان وفاته، ليلتقي مع زعيم الأقليّة الكرواتية، دراغان تشوفيتش، هناك، للتأكيد على استمرارية الدعم الكرواتي.

متاعب متواصلة

تقاطع الولايات المتّحدة الأميركية والصين وروسيا المحكمة الجنائية الدولية، وتستخدم حقّ 
النقض (الفيتو) لتعطيل قراراتها التي لا تتوافق مع مصالحها، وتبدو المحكمة غير قادرة على العمل بفعالية كغيرها من المحاكم الدولية، لأسبابٍ تتعلّق بمواقفها من بعض الدول الأفريقية وجورجيا والعراق وأوكرانيا وفلسطين وسورية، عدا عن عجزها عن التحقيق في الجرائم والمواجهات الدموية في أماكن النفوذ الروسي. وليس متوقّعا كذلك أن تتمكّن المحكمة من تحقيق نجاح ملحوظ في عمليات التحقيق والتحرّيات بشأن المعتقلين في زنانين وكالة الاستخبارات الأميركية في بولندا ورومانيا ولاتفيا، حيث من الصعب أن توافق إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على التعاون مع المدّعين العامين لهذه المحكمة.
وفي الشأن الفلسطيني، أعلنت محكمة الجنايات الدولية في لاهاي عن تلقيها بلاغًا رسميًا من السلطة الفلسطينية تعترف من خلاله باحتصاص المحكمة مع بداية شهر يناير/ كانون الثاني عام 2015، وإمكانية إجراء المحكمة لتحقيقات قضائية بشأن ارتكاب جرائم حرب صهيونية ضدّ قطاع غزّة، وليس بالضرورة بالطبع الشروع فورًا بهذه الإجراءات.
أثبتت محكمة الجنايات عمليًا عجزها عن التعامل بفاعلية مع الأزمة السورية، بعد مرور 15 سنة على تأسيسها. من جهة، تعترف دمشق بهذه المحكمة، ومن جهة أخرى، تقف الصين وروسيا ضدّ تمرير قراراتها في مجلس الأمن. على الرغم من سقوط مئات آلاف من الضحايا المدنيين في سورية، ما استدعى من بعض الدول الأوروبية، كما ذكرنا، بذل جهود خاصة لملاحقة مجرمي الحروب فوق أراضيها. وقد أشار تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، أخيرا، إلى هذا النمط من المحاكم، حيث تمكّنت ألمانيا والسويد من محاكمة مقاتلين في تنظيم داعش، فرّوا من سورية إلى الدولتين، بعد جمع الأدلة الدامغة وأشرطة فيديو تثبت تورّطهم في عمليات القتل في سورية. وأشادت المنظمة بحزمة القوانين الدستورية وفعاليتها وقدرتها على تنفيذ أحكامها في ألمانيا والسويد.
الطريق نحو فرض العدالة المرجوّة طويل وشائك، لكن لا بديل عن ذلك، وسيساهم إفلات مجرمي الحروب الأهلية في تشجيع مزيد من الأعمال الوحشية ضدّ البشرية. كما تمتلك المنظومة الأوروبية شبكة معلوماتية موحّدة، تضمّ أسماء الهاربين من العدالة، والمتورّطين في أعمال إبادة جماعية، الأمر الذي سيسهّل عملية تقديمهم للمحاكم المختصة، والبحث عن الأدلة الدامغة التي تثبت بما لا يقبل الشكّ تورّطهم في هذا النمط من الجنايات. كما يسعى الاتحاد الأوروبي جاهدًا إلى دمج دول غرب البلقان بمؤسّساته في المرحلة المقبلة، للحيلولة دون اندلاع نزاعات دموية على خلفية عقائدية وإثنية في إقليم البلقان، القابل للاشتعال من دون سابق إنذار ولأتفه الأسباب.
59F18F76-C34B-48FB-9E3D-894018597D69
خيري حمدان

كاتب وصحفي فلسطيني يقيم في صوفيا. يكتب بالعربية والبلغارية. صدرت له روايات ودواوين شعرية باللغتين، وحاز جائزة أوروبية في المسرح