26 سبتمبر 2018
صعود القوميين إلى الحكم في النمسا.. أي نتائج وتداعيات؟
هناك تساؤلات عديدة بشأن منظومة القيم الأخلاقية والنهج الديمقراطي الذي ألفَته، وتمسّكت به، القارّة القديمة (أوروبا) منذ قرون طويلة، لتصبح إلى وقتٍ قريب مثالا يحتذى به في العالم، ووجهة مفضّلة للجوء والإقامة وممارسة العمل والحياة فوق أراضيها. أهمّ هذه القيم الديمقراطية التسامح الديني والإثني. ومناسبة التساؤلات هنا فوز حزب الحرية، النمساوي القومي اليميني المتطرّف، بزعامة هاينز كريستيان، بمرتبة متقدّمة في الانتخابات التي شهدتها النمسا أخيرا، وفرض حضوره في أيّ محادثات لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة، وسط صمت أوروبي مقلق، ورضا شعبي نسبيّ. ما يدلّ على أنّ فوز الحزب كان متوقّعًا في دولة صغيرة نسبيًا، لا تمثّل ثقلا كبيرًا في المنظومة الأوروبية. وعلى ما يبدو، ستكون بادرة في مسيرة صعود الأحزاب اليمينية المتطرّفة، ذات الأجندة المعادية لوجود الأجانب في أوروبا، وقد سارعت حكومات دول أوروبية عديدة إلى إرسال برقيات تهنئة بهذا الفوز، بانتظار التعاون في أمور حيوية عديدة تهمّ الاتحاد الأوروبي.
وزارات مهمة للقوميين
في المرّة السابقة التي تمكّن فيها حزب الحرية النمساوي عام 2000 من المشاركة في قوام الحكم في النمسا، اضطرّ أعضاء التحالف لقطع المسافة بين مقرّ المجلس الوزاري ومكتب الرئيس تحت الأنفاق، لتجنّب مواجهة عشرات آلاف المتظاهرين المعارضين للحزب القومي المتطرّف. لكن الأمور تغيّرت بصورة ملحوظة، بعد مرور 17 عامًا، في ظلّ قبول شعبي نسبي وخجول للوضعية الجديدة، لتصبح النمسا أولى دول أوروبا الغربية التي فضّلت النهج القومي اليميني المتطرّف لإدارة البلاد. وسيعبر القادة النمساويون الطريق إلى مقرّ الرئاسة برؤوس مرفوعة، من دون اللجوء إلى الأنفاق للإدلاء بالقسم ونيل السلطة، حسب تصريحات زعيم الحزب، هاينز كريستيان. وقد نال "الحرية" حقيبتي وزارتي الخارجية والدفاع، ومناصب إدارية رفيعة في وزارة الداخلية، وستكون له كلمة الفصل في السياسات الداخلية والخارجية في البلاد، والقضايا ذات البعد الأمني.
وقد فرضت دول أوروبية عقوبات اقتصادية قاسية ضدّ النمسا عام 2000، لمشاركة حزب الحرية النمساوي القومي في قوام السلطة، لأنّ الحزب اعتبر نازيًا في تلك الآونة، وهو لا يخفي هذه الصبغة في الوقت الراهن أيضًا. لكن ليس متوقّعا اتّخاذ خطوات مماثلة، لأسباب عديدة لا تخفى على أحد، أهمّها الحملات الإعلامية المتواصلة ضدّ موجات اللجوء، والتحريض ضدّ الأجانب، ومشروع انفصال بريطانيا عن الاتحاد، وغيرها من قضايا وجدت صدىً وتربةً خصبةً لتبنّيها، ليس فقط في النمسا، بل في معظم دول المنظومة الأوروبية.
فضلت أوروبا الصمت في ما يتعلّق بطبيعة الحكم في النمسا، على الرغم من أنّها أعربت عن رضاها لخسارة اليمين المتطرّف في فرنسا والنمسا في انتخابات الرئاسة، والانتخابات البرلمانية في هولندا أخيرا، لكنّ المؤسّسات الأوروبية التزمت الهدوء والصمت إثر توصّل حزب الشعب النمساوي اليميني، بزعامة سباستيان كورتز، المستشار الجديد (رئيس الوزراء) وحزب الحرية النمساوي، إلى اتّفاق بشأن تشكيل حكومة ائتلاف جديدة.
وأعربت إيطاليا عن قلقها وعدم رضاها عن المشهد السياسي الجديد، وتنامي المشاعر "القومية الإثنية" في النمسا، بالتزامن مع تقديم الائتلاف الحكومي وعودًا بمنح جنسية ثانية مزدوجة لنحو نصف مليون مواطن، يعيشون في مقاطعة بولسانو (جنوب تيرول) الإيطالية، والتي تتحدّث غالبية سكانها باللغة الألمانية، وتربطها حدود طويلة مع النمسا، ما اعتبرته الحكومة الإيطالية تدخّلا في شؤونها الداخلية، أخذًا بالاعتبار مشروع انفصال كتالونيا عن إسبانيا، وتسبّبه بأزمة أوروبية ودولية لا تزال تبعاتها واضحة.
الأمر الآخر الذي حثّ رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، والقادة الأوروبيين في بروكسل، على توخّي الحذر والصمت، الوعود التي قدّمها المحافظون في فيينا، للامتناع عن عقد مشروع استفتاء جديد لاستطلاع الآراء بشأن خروج النمسا من إطار الاتحاد الأوروبي، وهذا ما تخشاه بروكسل في الوقت الراهن، على ضوء نتائج الاستفتاء البريطاني الذي أدّى إلى انفصال لندن عن الاتحاد. وتجد بروكسل نفسها مضطرّة لقبول الحدّ الأدنى من التنازلات، وسط ضغوط كبيرة تواجهها من دول أوروبية عديدة، تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية وصراع أيديولوجي داخلي ما بين التيارات السياسية.
يضم حزب الحرية النمساوي، كما هو معروف، نازيين قدامى، تسبّبوا بأزمات دبلوماسية مع المنظومة الأوروبية، وقد يفعلون ذلك ثانية من دون تردّد. وقد نال قادة هذا الحزب المتطرّف في الحكومة الجديدة أهمّ الحقائب الوزارية في النمسا، الخارجية والدفاع والداخلية. أمّا حزب المستشار الشاب سباستيان كورتز (31 سنة)، فسيبقي على حقائب المالية والعدل والزراعة وغيرها. ويتيح توزيع الحقائب الوزارية على هذه الشاكلة المجال للحزب المتطرّف بوضع سياسة عامّة للبلاد، والتدخّل بالتوجّهات الداخلية، وإيجاد وضعية جديدة ستترك أثرًا عميقًا في الواقع الأوروبي، لم يكن مألوفًا منذ عقود طويلة.
ويذكر أن المتحدّث باسم الحزب المتطرّف، هربرت كيكل، هو وزير الداخلية الجديد في حكومة كورتز، وهو معروف بمعاداته لوجود الأجانب في بلاده، بمن فيهم مواطنو أوروبا الشرقية. أمّا ماريو كوناسك، من الحزب نفسه، فيترأس وزارة الدفاع، ويترأس وزارة الخارجية الخبير في القانون الدولي وشؤون الشرق الأوسط، كارين كايسل. كما أن هربرت هوفر الموالي والداعم للحزب القومي المتطرّف، والمرشح المنافس السابق لمنصب الرئاسة الذي فاز به فان دير بيلن في انتخابات الرئاسة أخيرا، فنال نصيبه من قوام الحكومة الجديدة، ومنح حقيبة وزارة التنمية الإقليمية. كما حصل الحزب على مناصب نواب عدة وزراء. وبهذا، تمكّن الحزب القومي المتطرّف من فرض رؤيته في الشؤون الداخلية والخارجية في النمسا، وليصبح مثالا يُحتذى به أمام الكتل القومية التي أثبتت حضورها في المشهد السياسي في معظم أوروبا، مع ارتفاع معدّلات اللجوء القادمة من قارتي آسيا وأفريقيا.
التوجّهات الخارجية
على الرغم من أنّ حزب الشعب النمساوي، بزعامة سباستيان كورتز، قد رفع شعارات معادية لاستيعاب اللاجئين القادمين من آسيا وأفريقيا، وطرد غير الشرعيين والمخالفين للقانون، ورفض كوتا توزيع اللاجئين التي تحاول بروكسل فرضها على دول المنظومة الأوروبية، إلا أنّ المستشار النمساوي الشاب قدّم وعودًا للإبقاء على المسار الأوروبي للبلاد في أثناء ولايته، وسيحتفظ برئاسة دائرة الشؤون الأوروبية في وزارة الخارجية ضمن صلاحياته الخاصّة. وليس مصادفةً اجتماع زعماء حزب الشعب وحزب الحرية النمساوي على قمّة كالين بيرغ، التي شهدت هزيمة الجيش العثماني عام 1683، حيث أوقف الزحف العثماني إلى عمق القارة الأوروبية، كناية عن رفض التحالف أيّ محاولات لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
مشاعر العداء ورفض الأجانب وليدة البروباغندا المتواصلة منذ سنواتٍ عديدة، وقد أدّت كذلك إلى تنامي الإسلاموفوبيا في عدة دول في القارّة الأوروبية. وليست النمسا استثناءً، بل باتت تعتبر رأس حربة، على الرغم من أنّها لم تشهد عمليات اعتداءات جماعية ذات طابع ديني أو عقائدي، كما شهدته فرنسا وألمانيا وغيرها. ومع ذلك، حذّر القوميون، في حملاتهم الانتخابية، من تبعات ظهور مجتمعات موازية مسلمة في البلاد، معظمها من الأقلية التركية.
ويذكر أن تعداد السكّان في النمسا يبلغ قرابة تسعة ملايين مواطن، أمّا المسلمون فهم قرابة نصف مليون. واستغلّ القادة القوميون المشاعر الوطنية في حملتهم الانتخابية لكسب الأصوات، معربين عن رفضهم القاطع لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
ويسعى الائتلاف الجديد في النمسا كذلك إلى الحدّ من المركزية الأوروبية، والحصول على أكبر قدر ممكن من الاستقلالية الوطنية، كما طرحت الحكومة الجديدة رؤيتها السياسية أمام الاتحاد الأوروبي، للاستفادة من وطأة الأزمات العديدة التي يمرّ بها. وفي المقابل، التزمت هذه الحكومة بالإبقاء على عضويتها، من دون اللجوء لتنظيم استفتاء شعبي قابل للنجاح، لتصبح النمسا الدولة الثانية بعد بريطانيا الراغبة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
وقد أعربت حكومة المستشار النمساوي الشاب، كريستيان كورتز، عن رغبتها بالحدّ من صلاحيات الاتحاد الأوروبي في العلاقة الثنائية المشتركة، ووقف سياسات التكامل والاندماج بين دول المنظومة، على الصعيد الاقتصادي خصوصا، في إشارة واضحة لدعم مسيرة الاتحاد بسرعات مختلفة بين غربه وشرقه، ورفع صلاحيات مجالس الشعب الوطنية في الدول الأوروبية المختلفة. الأهم من ذلك التأكيد على رفض انضمام تركيا للمنظومة الأوروبية. وتدعم برنامج الحكومة النمساوية الجديد مناهج الديمقراطية المباشرة، المتمثلة بعقد استفتاءات يشارك فيها 900 ألف مواطن على الأقل. وفي الوقت نفسه، قدّمت ضمانات لبروكسل بعدم طرح مشروع انفصال النمسا عن المنظومة الأوروبية. وفي المقابل، نلاحظ أنّ السياسة الناعمة الجديدة للقادة الأوروبيين تتركّز على توضيح نقاط الضعف التي تعاني منها دول المنظومة، بدلا من رفع الصلاحيات المركزية لبروكسل، وفرض قراراتها على دول المنظومة، بما لا يتوافق مع التوجّهات الشعبية والسياسة الداخلية للدول الأعضاء.
وترغب الأحزاب القومية الأوروبية عامّة برفع مستوى العلاقات المشتركة مع روسيا وتحسينها، وتطالب حكومة كورتز برفع الغرامات المفروضة ضدّ الكرملين، على أن يتمّ ذلك بإجماع الدول الأعضاء. وفي مجال الأمن والاستقرار، تطفو على السطح ثانية المخاوف من امتداد التأثير الإسلامي. لذا تحثّ الحكومة الجديدة على تقديم الأولوية لهذا الشأن، وزيادة أعداد العاملين في الأجهزة الأمنية والبوليس، وتحسين أداء رجال الحدود ودوريات الرقابة لمنع اللاجئين من اقتحام الأراضي النمساوية. من المتوقع كذلك إبقاء الحكومة الجديدة على إمكانات الهجرة محصورة في مهن وكفاءات محدّدة، يتعذّر العثور عليها بين فئات المجتمع النمساوي.
خلافًا للتوجّهات اليسارية في الاتحاد الأوروبي، تدعم النمسا اتفاقية التجارة الحرّة مع كندا، الاتفاقية التي تسبّبت بكثير من القلق والجدل بين الأطراف السياسية في دول المنظومة، مع بداية العام الحالي، وقد عارضها بصورة قاطعة الاشتراكيون الأوروبيون، لأنّها ستتسبّب، حسب رؤيتهم، بأضرار بالغة على قطاع العمل الأوروبي.
الحكومة اليمينية المتطرّفة بصدد اتخاذ إجراءات عديدة في مجال التربية والتعليم، تشمل حرمان التلاميذ الذين لا يتقنون اللغة الألمانية من الالتحاق بالمدارس النمساوية. وكذا حرمان العائلات التي تمنع أطفالها من الذهاب إلى المدارس من المساعدات الاجتماعية، والمقصود الفئات الغجرية، وتشترط كذلك إتقانهم للغة الألمانية، للحصول على هذه المساعدات.
تأخذ السياسة الاجتماعية المقترحة بالحسبان حرمان الوافدين الجدد إلى النمسا من المساعدات الاجتماعية طوال السنوات الخمس الأولى، وتقليص قيمة المساعدات المقدّمة للاجئين، وحصرها بالمساعدات العينية، من دون المالية، لتتحوّل النمسا بذلك إلى دولة غير جذّابة للاجئين القادمين من آسيا وأفريقيا.
وزارات مهمة للقوميين
في المرّة السابقة التي تمكّن فيها حزب الحرية النمساوي عام 2000 من المشاركة في قوام الحكم في النمسا، اضطرّ أعضاء التحالف لقطع المسافة بين مقرّ المجلس الوزاري ومكتب الرئيس تحت الأنفاق، لتجنّب مواجهة عشرات آلاف المتظاهرين المعارضين للحزب القومي المتطرّف. لكن الأمور تغيّرت بصورة ملحوظة، بعد مرور 17 عامًا، في ظلّ قبول شعبي نسبي وخجول للوضعية الجديدة، لتصبح النمسا أولى دول أوروبا الغربية التي فضّلت النهج القومي اليميني المتطرّف لإدارة البلاد. وسيعبر القادة النمساويون الطريق إلى مقرّ الرئاسة برؤوس مرفوعة، من دون اللجوء إلى الأنفاق للإدلاء بالقسم ونيل السلطة، حسب تصريحات زعيم الحزب، هاينز كريستيان. وقد نال "الحرية" حقيبتي وزارتي الخارجية والدفاع، ومناصب إدارية رفيعة في وزارة الداخلية، وستكون له كلمة الفصل في السياسات الداخلية والخارجية في البلاد، والقضايا ذات البعد الأمني.
وقد فرضت دول أوروبية عقوبات اقتصادية قاسية ضدّ النمسا عام 2000، لمشاركة حزب الحرية النمساوي القومي في قوام السلطة، لأنّ الحزب اعتبر نازيًا في تلك الآونة، وهو لا يخفي هذه الصبغة في الوقت الراهن أيضًا. لكن ليس متوقّعا اتّخاذ خطوات مماثلة، لأسباب عديدة لا تخفى على أحد، أهمّها الحملات الإعلامية المتواصلة ضدّ موجات اللجوء، والتحريض ضدّ الأجانب، ومشروع انفصال بريطانيا عن الاتحاد، وغيرها من قضايا وجدت صدىً وتربةً خصبةً لتبنّيها، ليس فقط في النمسا، بل في معظم دول المنظومة الأوروبية.
فضلت أوروبا الصمت في ما يتعلّق بطبيعة الحكم في النمسا، على الرغم من أنّها أعربت عن رضاها لخسارة اليمين المتطرّف في فرنسا والنمسا في انتخابات الرئاسة، والانتخابات البرلمانية في هولندا أخيرا، لكنّ المؤسّسات الأوروبية التزمت الهدوء والصمت إثر توصّل حزب الشعب النمساوي اليميني، بزعامة سباستيان كورتز، المستشار الجديد (رئيس الوزراء) وحزب الحرية النمساوي، إلى اتّفاق بشأن تشكيل حكومة ائتلاف جديدة.
وأعربت إيطاليا عن قلقها وعدم رضاها عن المشهد السياسي الجديد، وتنامي المشاعر "القومية الإثنية" في النمسا، بالتزامن مع تقديم الائتلاف الحكومي وعودًا بمنح جنسية ثانية مزدوجة لنحو نصف مليون مواطن، يعيشون في مقاطعة بولسانو (جنوب تيرول) الإيطالية، والتي تتحدّث غالبية سكانها باللغة الألمانية، وتربطها حدود طويلة مع النمسا، ما اعتبرته الحكومة الإيطالية تدخّلا في شؤونها الداخلية، أخذًا بالاعتبار مشروع انفصال كتالونيا عن إسبانيا، وتسبّبه بأزمة أوروبية ودولية لا تزال تبعاتها واضحة.
الأمر الآخر الذي حثّ رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، والقادة الأوروبيين في بروكسل، على توخّي الحذر والصمت، الوعود التي قدّمها المحافظون في فيينا، للامتناع عن عقد مشروع استفتاء جديد لاستطلاع الآراء بشأن خروج النمسا من إطار الاتحاد الأوروبي، وهذا ما تخشاه بروكسل في الوقت الراهن، على ضوء نتائج الاستفتاء البريطاني الذي أدّى إلى انفصال لندن عن الاتحاد. وتجد بروكسل نفسها مضطرّة لقبول الحدّ الأدنى من التنازلات، وسط ضغوط كبيرة تواجهها من دول أوروبية عديدة، تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية وصراع أيديولوجي داخلي ما بين التيارات السياسية.
يضم حزب الحرية النمساوي، كما هو معروف، نازيين قدامى، تسبّبوا بأزمات دبلوماسية مع المنظومة الأوروبية، وقد يفعلون ذلك ثانية من دون تردّد. وقد نال قادة هذا الحزب المتطرّف في الحكومة الجديدة أهمّ الحقائب الوزارية في النمسا، الخارجية والدفاع والداخلية. أمّا حزب المستشار الشاب سباستيان كورتز (31 سنة)، فسيبقي على حقائب المالية والعدل والزراعة وغيرها. ويتيح توزيع الحقائب الوزارية على هذه الشاكلة المجال للحزب المتطرّف بوضع سياسة عامّة للبلاد، والتدخّل بالتوجّهات الداخلية، وإيجاد وضعية جديدة ستترك أثرًا عميقًا في الواقع الأوروبي، لم يكن مألوفًا منذ عقود طويلة.
ويذكر أن المتحدّث باسم الحزب المتطرّف، هربرت كيكل، هو وزير الداخلية الجديد في حكومة كورتز، وهو معروف بمعاداته لوجود الأجانب في بلاده، بمن فيهم مواطنو أوروبا الشرقية. أمّا ماريو كوناسك، من الحزب نفسه، فيترأس وزارة الدفاع، ويترأس وزارة الخارجية الخبير في القانون الدولي وشؤون الشرق الأوسط، كارين كايسل. كما أن هربرت هوفر الموالي والداعم للحزب القومي المتطرّف، والمرشح المنافس السابق لمنصب الرئاسة الذي فاز به فان دير بيلن في انتخابات الرئاسة أخيرا، فنال نصيبه من قوام الحكومة الجديدة، ومنح حقيبة وزارة التنمية الإقليمية. كما حصل الحزب على مناصب نواب عدة وزراء. وبهذا، تمكّن الحزب القومي المتطرّف من فرض رؤيته في الشؤون الداخلية والخارجية في النمسا، وليصبح مثالا يُحتذى به أمام الكتل القومية التي أثبتت حضورها في المشهد السياسي في معظم أوروبا، مع ارتفاع معدّلات اللجوء القادمة من قارتي آسيا وأفريقيا.
التوجّهات الخارجية
على الرغم من أنّ حزب الشعب النمساوي، بزعامة سباستيان كورتز، قد رفع شعارات معادية لاستيعاب اللاجئين القادمين من آسيا وأفريقيا، وطرد غير الشرعيين والمخالفين للقانون، ورفض كوتا توزيع اللاجئين التي تحاول بروكسل فرضها على دول المنظومة الأوروبية، إلا أنّ المستشار النمساوي الشاب قدّم وعودًا للإبقاء على المسار الأوروبي للبلاد في أثناء ولايته، وسيحتفظ برئاسة دائرة الشؤون الأوروبية في وزارة الخارجية ضمن صلاحياته الخاصّة. وليس مصادفةً اجتماع زعماء حزب الشعب وحزب الحرية النمساوي على قمّة كالين بيرغ، التي شهدت هزيمة الجيش العثماني عام 1683، حيث أوقف الزحف العثماني إلى عمق القارة الأوروبية، كناية عن رفض التحالف أيّ محاولات لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
مشاعر العداء ورفض الأجانب وليدة البروباغندا المتواصلة منذ سنواتٍ عديدة، وقد أدّت كذلك إلى تنامي الإسلاموفوبيا في عدة دول في القارّة الأوروبية. وليست النمسا استثناءً، بل باتت تعتبر رأس حربة، على الرغم من أنّها لم تشهد عمليات اعتداءات جماعية ذات طابع ديني أو عقائدي، كما شهدته فرنسا وألمانيا وغيرها. ومع ذلك، حذّر القوميون، في حملاتهم الانتخابية، من تبعات ظهور مجتمعات موازية مسلمة في البلاد، معظمها من الأقلية التركية.
ويذكر أن تعداد السكّان في النمسا يبلغ قرابة تسعة ملايين مواطن، أمّا المسلمون فهم قرابة نصف مليون. واستغلّ القادة القوميون المشاعر الوطنية في حملتهم الانتخابية لكسب الأصوات، معربين عن رفضهم القاطع لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
ويسعى الائتلاف الجديد في النمسا كذلك إلى الحدّ من المركزية الأوروبية، والحصول على أكبر قدر ممكن من الاستقلالية الوطنية، كما طرحت الحكومة الجديدة رؤيتها السياسية أمام الاتحاد الأوروبي، للاستفادة من وطأة الأزمات العديدة التي يمرّ بها. وفي المقابل، التزمت هذه الحكومة بالإبقاء على عضويتها، من دون اللجوء لتنظيم استفتاء شعبي قابل للنجاح، لتصبح النمسا الدولة الثانية بعد بريطانيا الراغبة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
وقد أعربت حكومة المستشار النمساوي الشاب، كريستيان كورتز، عن رغبتها بالحدّ من صلاحيات الاتحاد الأوروبي في العلاقة الثنائية المشتركة، ووقف سياسات التكامل والاندماج بين دول المنظومة، على الصعيد الاقتصادي خصوصا، في إشارة واضحة لدعم مسيرة الاتحاد بسرعات مختلفة بين غربه وشرقه، ورفع صلاحيات مجالس الشعب الوطنية في الدول الأوروبية المختلفة. الأهم من ذلك التأكيد على رفض انضمام تركيا للمنظومة الأوروبية. وتدعم برنامج الحكومة النمساوية الجديد مناهج الديمقراطية المباشرة، المتمثلة بعقد استفتاءات يشارك فيها 900 ألف مواطن على الأقل. وفي الوقت نفسه، قدّمت ضمانات لبروكسل بعدم طرح مشروع انفصال النمسا عن المنظومة الأوروبية. وفي المقابل، نلاحظ أنّ السياسة الناعمة الجديدة للقادة الأوروبيين تتركّز على توضيح نقاط الضعف التي تعاني منها دول المنظومة، بدلا من رفع الصلاحيات المركزية لبروكسل، وفرض قراراتها على دول المنظومة، بما لا يتوافق مع التوجّهات الشعبية والسياسة الداخلية للدول الأعضاء.
وترغب الأحزاب القومية الأوروبية عامّة برفع مستوى العلاقات المشتركة مع روسيا وتحسينها، وتطالب حكومة كورتز برفع الغرامات المفروضة ضدّ الكرملين، على أن يتمّ ذلك بإجماع الدول الأعضاء. وفي مجال الأمن والاستقرار، تطفو على السطح ثانية المخاوف من امتداد التأثير الإسلامي. لذا تحثّ الحكومة الجديدة على تقديم الأولوية لهذا الشأن، وزيادة أعداد العاملين في الأجهزة الأمنية والبوليس، وتحسين أداء رجال الحدود ودوريات الرقابة لمنع اللاجئين من اقتحام الأراضي النمساوية. من المتوقع كذلك إبقاء الحكومة الجديدة على إمكانات الهجرة محصورة في مهن وكفاءات محدّدة، يتعذّر العثور عليها بين فئات المجتمع النمساوي.
خلافًا للتوجّهات اليسارية في الاتحاد الأوروبي، تدعم النمسا اتفاقية التجارة الحرّة مع كندا، الاتفاقية التي تسبّبت بكثير من القلق والجدل بين الأطراف السياسية في دول المنظومة، مع بداية العام الحالي، وقد عارضها بصورة قاطعة الاشتراكيون الأوروبيون، لأنّها ستتسبّب، حسب رؤيتهم، بأضرار بالغة على قطاع العمل الأوروبي.
الحكومة اليمينية المتطرّفة بصدد اتخاذ إجراءات عديدة في مجال التربية والتعليم، تشمل حرمان التلاميذ الذين لا يتقنون اللغة الألمانية من الالتحاق بالمدارس النمساوية. وكذا حرمان العائلات التي تمنع أطفالها من الذهاب إلى المدارس من المساعدات الاجتماعية، والمقصود الفئات الغجرية، وتشترط كذلك إتقانهم للغة الألمانية، للحصول على هذه المساعدات.
تأخذ السياسة الاجتماعية المقترحة بالحسبان حرمان الوافدين الجدد إلى النمسا من المساعدات الاجتماعية طوال السنوات الخمس الأولى، وتقليص قيمة المساعدات المقدّمة للاجئين، وحصرها بالمساعدات العينية، من دون المالية، لتتحوّل النمسا بذلك إلى دولة غير جذّابة للاجئين القادمين من آسيا وأفريقيا.