مشهديات شعرية تحتفي بالفقد والغياب

30 ديسمبر 2014
+ الخط -
يذهب القول الشعري في ديوان "يا أمي" للشاعرة القطرية زكية مال الله، إلى آخره في مشهدية مألوفة، في الرثاء وفي رثاء الأمهات بخاصة، مشهدية تثبّت العدسة على شجرة اقتطعت للتوّ، ليكتب الراثي موقعه من الشجرة التي كان يستند إليها للتوّ، في الصدمة الأولى للفقد: "أنفذ من كل الطرقات/ ويرفضني دربك/ وحين أفرّ إليك/ أحتمل جذوع الأشجار على كتفي/ أثبت أوتادي في الأرض الشاسعة/ كغابات متكاثفة الأغصان"، وهنا تكتب الشاعرة الموت في توتر درامي صاعد، ضيفاً قاسياً مفزعاً: "تسري أو تسكن/ غيم يمطر/ ريح تقتلع الأبواب/ ضجيج وهدير/ كل الأصوات الحيرى تتوافد/ آلاف الأبواق تصفر". إنها المشهدية التي تحتفي بالغائب الحاضر في حشد صوري شعري يهيمن على الصورة الجديدة: "أحسك أمواجاً وبحوراً/ أغرق فيك/ ولا أشعر إلا كفاكِ/ رقائق من بلّور".
وفي المقابل تبحث الشاعرة عن ذاتها في حادثة الفقد في يُتمٍ متأخرٍ لشاعرة كرّست حياتها للقصيدة والعائلة: "أفكّك أزرار الأماكن/ أبعثر قمصان الأزمنة/ أقلب الخزائن رأساً على عقب/ ربّما أعثر على صورة لوجهي/ أكثر وضوحاً/ كلّ مساء"، وتؤكده أكثر من قصاصة شعرية معبّرة عن أثر الغياب في الشاعرة: "من لي غيرك/ وأنت الكائن في كلّ الأشياء/ والمغمور بكل الأصوات والأضواء".
تأخذ الشاعرة الكاميرا إلى جهة أخرى في قصاصة سردٍ تحمل دفء السرد الأنثوي: "هناك على الشرفة/ تتحد النسمة بالنسمة/ الومضة بالومضة/ يبزغ قمر جوري/ يخترق حجب الغيب/ ويسقط على كفّي/ ألمع كوميض يتعلق بأذيال الليل". فالقمر الجوري الطالع كما في الأساطير يحمل ملامح الغائبين، قبل أن يأفل وتطويه العتمة. يحيل رثاء الأم عند مال الله إلى رغبات تجمع بين التماهي والحنين إلى الرحم الأوّل، فالأم بالنسبة إليها رفيقة درب وصديقة وأمّ.
الفقد هنا ذو وجوه متعددة، ولكنّ الطفلة الكامنة في ذات الشاعرة تسجل مساراً نكوصياً يضاف إلى معجم رثاء الأمهات، إنها الرغبة في لحظة السلام، وإغماض العين عن مآلات ما بعد الفقد: "يا أروع من كلّ قصائد الشعر/ هاتي عينيكِ أبصر بهما/ كفّيك أقبلهما/ واسترخي فوق ذراعي إلى ما شاء الله/ أعيدي حملي، ولادتي/ واصطحبيني حيث تروحين ولا نفترق أبداً".
تكرّس مال الله في الديوان أسلوبها في الكتابة الأدبية الذي عرفناه من خلال دواوينها السابقة حيث تعلو وتسمو اللغة ذات الطابع الوجداني، الذي يجمع بين البوح الأنثوي والوله الصوفي الذي انغمست في مداراته في رحلة مبكرة من شاعريتها.
وتتراوح القصائد بين شكلي قصيدة النثر وشعر التفعيلة، وتتضمن بالإضافة إلى المراثي قصائد وجدانية أخرى عن الإنسان والمكان. فمال الله تنظر بعين الشعر إلى رحلة الإنسان في دروب الحياة، ويجمع كلّ هذه النصوص الفقد وظلال من الحزن الشفيف.
المساهمون