مشاهد متفرقة للحزن

27 يونيو 2016

انتظار (محمد نصرالله)

+ الخط -
أغلق التلفزيون بحنق بالغ، بعد ساعاتٍ طوال من متابعة البؤس، وقد امتلأ رأسي بصور القتل العبثي ومشاهد الخراب والدمار التي ستقتحم أحلامي فيما بعد. أشلاء ممزقة وأجساد فتية محروقة، رؤوس آدمية مقطوعة وملقاة على قارعة الطريق، كما لو كانت دمىً بلاستيكية ملّ أصحابها منها.
أستعيد، بأسىً كبير، بعضاً من بنود اتفاقية حماية الطفل التي تبدو الكلمات فيها مصفوفةً بعناية على الورق الصقيل، وخلف ميكروفونات سيدات المجتمع الساعيات إلى الشهرة، وهي تنص على حق الأطفال في الغذاء والكساء والدواء والتعلم، وتوفير الحماية من أشكال العنف كافة، كما تنص على حقه في الحياة. نعم، هكذا ببساطة. الحق في الحياة! أين المشكلة؟! ولكن، أين هي هذه الحياة؟ وكيف يمكن اقتفاء أثرها، وقد ضاع معناها وامتهن بمباركةٍ دوليةٍ غاشمةٍ في أزقة هذا الوطن العربي المسكين المعذّب المستضعف في الأرض. أتساءل بغيظٍ عن جدوى الأبحاث والندوات والورشات التي يعقدها مختصون لغايات تمكين المرأة والنهوض بحالها، وتلح على البال جثةٌ هامدةٌ لأم هاربةٍ من نيران الإرهاب، ورضيع يحبو غافلاً بالقرب من موتها، ولا أحد على وجه هذه البسيطة قادر على تمكينها من النهوض، لاحتضان صغيرها المذعور الجائع وغير المدرك سبب تقاعس أمه المفاجئ، وهي من عوّدته أن تهبّ إليه، بكامل اكتراثها، مثل لبؤة متفانية في أمومتها عند أول آه.
******
أدعو إلى عقد مؤتمر طارئ على مستوى القمة مع نفسي، وحين يتقاعس جزءٌ كبير مني عن تلبية النداء العاجل، لأسبابٍ تبدو لي واهية، أجد نفسي مضطرّة لعقده بمن حضر. وأستقبل مندوبي الصحافة المحلية والعالمية، وأقرأ عليهم بياني الختامي الذي توصلت إليه، بعد نزاعات شديدة دارت بيني وبيني، فيما فلاشات مئات الكاميرات تُبرق في وجهي وتعمي بصري.
أتخذ قراري بضرورة قمع أحداث الشغب التي تحدُث داخل روحي، وأبيح استخداماً مفرطاً للقوة في سبيل كبح جماحها، أهدّ خيمة اعتصامي فوق رأسي، وذلك احتجاجاً شديد اللهجة على ما بدر مني من انفلات.
ألقي في وجهي قنابل مسيلة للدموع المستعصية، علها تنسكب بعد طول جفاف وتحجر، أستعين بهراواتٍ مصرّح بها دولياً، وبخراطيم ماء ليس شديد النقاء، كي أفرّقني عن بعضي. لكن، بلا جدوى: تتضافر في مواجهتي قوى الرفض الكامنة فيّ، وتحتشد وتوحد صفوفها، وتتغاضى عن خلافاتها الأيديولوجية المستفحلة، حتى أنها تجمع على تعيين ناطقٍ رسميٍ يخاطب باسمها وسائل الإعلام من عاصمةٍ مجاورة، تتقدّم نخبة مثقفة، تمثل أقلية من مجموعي، بالتماسٍ عقلاني اللهجة، يتسلمه مندوب الأمم المتحدة بتهذيبٍ شديد، ولا يخفي تعاطفه إزاء الغطرسة والاستبداد التي تنجم عني، يعتذر بخجلٍ عن عجزه عن ضبط تغولي، تتواصل مظاهراتي الحاشدة الرافضة لنهجي، فيما تأمرني قوات مكافحة الشغب بالتفرّق عن بعضي بهدوء.
****
وقفات احتجاج وتضامن، مسيرات حاشدة، شموع وبطانيات، خطاب إعلامي تعبوي بائس، أصوات ناشزة تحث على الكراهية في فورة دم، كلمات جوفاء مفرطة في حماستها، شعر مباشر بالغ الرداءة في أحيانٍ كثيرة، أغان وطنية يؤديها أشخاصٌ بمواهب متواضعة، ميّالون بطبعهم إلى المباشرة غير معتمدين على مخيلة المتلقي، فيقدّمون منجزهم الإبداعي مكتمل المواصفات النضالية، ويلمع نجمهم عالياً في أوقاتٍ كهذه. يظهر الشباب والصبايا، وقد لفّوا الأعناق بشماعاتٍ من كل الألوان والأطياف، تصريحات، تحليلات عسكرية، ومجادلات ومساجلات وتبادل اتهامات، إلا أن العيون كلها تبدو ميّتةً جوفاء تحدّق في الفراغ، هروباً من الإقرار بالعجز والخجل، لأن الكل، في نهاية المطاف، يعود إلى بيته، يناضل من خلف شاشة الكمبيوتر، يدين ويهاجم ويتهم، ينفس الغضب عن آخره، ثم ينام ليله الطويل مرتاح الذمة والضمير، فيما صغار ينامون في العراء، غير متأكدين إذا كان ثمّة صبح خال من البراميل المتفجرة سيطلع عليهم، من دون أن يفقد أحدٌ منهم أياً من أطرافه، أو أن تحتل صورة جثته المحترقة شاشات الفضائيات المتنازعة فيما بينها حول الصيغة الأمثل لتقديمه للسادة المشاهدين: قتيل أم ضحية أم شهيد.

دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.