10 مارس 2019
مسؤولية الإعلام الغربي والهجمات الإرهابيّة
تعتبرُ تغطية الهجمات الإرهابية من أهمّ أنواع العمل الإعلامي وأصعبها، لأنها تضع المؤسسة الإعلاميّة أمام تحدياتٍ شتى، تتواجه فيها قضايا عديدة، مثل حريّة الصحافة وضرورة إعلام الجمهور بالحدث وتطوراته ومدى خطورته بالسرعة القصوى، مقابل أهميّة التحقّق من المعلومة والتروّي في نشرها؛ المساهمة في تدعيم الإجماع الوطني ضد العمل الإرهابي، من دون التماهي مع المؤسسات الحكوميّة والسياسيين ومراكز القوى المختلفة التي ستجيّر الحدث وتطوّعه حسب مصالحها؛ وضع الجمهور بتفاصيل العمل الإرهابي والجهة المنفذة له وتوجهاتها ودوافعها، من دون الوقوع في الإثارة والتشويق وإرضاء فضول الجموع أو السقوط في فخ التسويق للرسالة السياسيّة والإعلاميّة التي تسعى المجموعة الإرهابية إلى ترويجها ونشرها.
هذا ما يتفق، من الناحية النظرية، مع أخلاقيات العمل الإعلامي المهني والمسؤول؛ إلا أنَّ الأمر يختلف كثيراً على أرض الواقع، فقلما نجد إعلاماً مسؤولاً يلتزم بأخلاقيات المهنة، ويطرح على نفسه الأسئلة الصحيحة في أثناء تغطية العمل الإرهابي؛ فبدل التروي والتحقق من المعلومة، والتفكر والتدقيق في اختيار العبارات والمصطلحات المستخدمة، أو التساؤل عن جدوى تغطية الحدث الإرهابي بشكلٍ مباشر بالصوت والصورة، تعطي غالبية وسائل الإعلام الغربيّة الأولوية القصوى للسبق الصحافي في سبيل تحقيق أكبر نسب مشاهدةٍ ممكنة. ويتسابق المراسلون للوصول إلى مكان الحدث، ويتزاحمون على الظفر بمقابلةٍ أو تصوير أحد الناجين أو الضحايا غير آبهين بحالته النفسية، ومعرّضين حياتهم وحياة غيرهم للخطر.
وعلى الرغم من النقد الشديد الذي تعرّض له "فيسبوك" بسبب البث المباشر الذي قام به إرهابي نيوزيلندا لتفاصيل مذبحته المروعة، التي استهدفت المصليّن داخل مسجدين في أثناء صلاة الجمعة يوم 15 مارس/ آذار الماضي؛ إلا أن فيديو المجزرة تحوّل مادة إثارة وتشويق، تناقلتها وسائل إعلام عديدة، حالها كحال الوثيقة "مانفستو" التي تركها خلفه، والتي عكست مستوىً غير مسبوق من العنصرية والحقد والكراهية ضد المهاجرين، ورغبة جامحة في الانتقام والقتل.
دارت نقاشاتٌ واسعةٌ بشأن الجدوى من نشر محتوىً كهذا، احتراماً لأرواح الضحايا ولذويهم المنكوبين من جهة، ولما فيه من دعايةٍ مجانيّةٍ للإرهابي من جهة ثانية. وفي هذا السياق، تعاملت رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أردرن، مع الحدث بمنتهى الحرفيّة والمسؤولية، وتوعدت السلطات النيوزيلندية من ينشر فيديوهات العمل الإرهابي بالسجن عشر سنوات. واللافت أيضاً امتناع وسائل إعلام عالمية عديدة، مثل (فوكس نيوز)، و(سي إن إن) الأميركيتين، عن نشر فيديو الإرهابي، أو حتى تداول اسمه أو صورته.
حقيقةً، امتناع وسائل الإعلام عن القيام بالدعاية المجانيّة للإرهاب العالمي يصيبه بمقتل، فقد
أصبح راسخا أنَّ أحد أهم أهداف الإرهاب جذب الانتباه ونشر الرعب والذهول على أوسع نطاق، فغاية معظم المنظمات الإرهابيّة من عملياتها الفظيعة والاستعراض الأقصى في تنفيذ المجازر هو توجيه رسائل عالمية، لا بل هو عملية اتصال سياسي متكاملة، هدفها الضغط على الحكومات ومراكز القرار والمجتمعات بأسلوب الصدمة. وقد لعبت معظم وسائل الإعلام الغربيّة دوراً محفّزاً في ترسيخ ثقافة الخطر الإرهابي وتضخيمها، ورسم صور نمطية عنها في الخيال الجمعي، فعلى مدار سنوات طويلة، وهذا الإعلام يتلقف أيّ محتوىً أو بيان يصدر عن الجماعات والمنظمات الإرهابية، بكل ما يحتويه من فظائع وأفعال رهيبة. وتعتبر آلية تعامل وسائل الإعلام مع مواقع المنظمات الإرهابية الراديكالية، مثل "داعش"، مثالاً صارخاً على ذلك؛ فقد تحولت تلك المواقع إلى محج للصحافيين والمحللين السياسيين، يتناوبون على متابعتها ونشر كل ما يصدر عنها من دون أي رقابة أو حس بالمسؤولية. وقد تلقف تنظيم "داعش" هذا الاهتمام، ورحب به، واستفادت منه إلى أبعد حدّ، إلى درجة أنه خصص نشرات صحافية دورية، بثها بالإنكليزية والفرنسية.
كذلك حظيت الأعمال الإرهابية التي تبناها "داعش" في أوروبا وأميركا، وغيرهما من الدول الغربيّة، بتغطية إعلامية منقطعة النظير، وبثّت غالبية وسائل الإعلام العالمية فيديوهات تلك العمليات وصور منفذيها من دون أي تحفظ. وهذا ما يجعل تعامل بعض وسائل الإعلام، وخصوصاً الأميركية منه، مع حدث نيوزيلندا محط استغراب وتساؤل عن مدى التلاقي والتناغم بين الأجندتين، الإعلامية والسياسيّة، في تغطية الاعتداءات الإرهابية. فقد اعتادت وسائل إعلام أميركية عديدة ممارسة انتقائية فاضحة في تغطيتها الإرهاب، بدءاً من اختيار المصطلحات والتعابير، وليس انتهاءً بالخلط بين مهمة إعلام الجمهور ومساعدته على الفهم وبين التغوّل في إثارته وتحريضه. وتعتبر هذه الممارسات ماركةً مسجّلةً باسم الإعلام الأميركي الذي يملأ الأرض ضجيجاً، ويستسهل إطلاق التهم الإرهابيّة، بمجرد أن المنفد ذو أصولٍ عربيةٍ أو مسلمة، ويعمد إلى تخصيص مساحات واسعة لمتابعة الحدث وتطوراته؛ مقابل لجوئه إلى المواربة والتورية والتلاعب بالمصطلحات وفلترة المعلومات، إن تعلّق الأمر بأعمال إرهابية ذات توجه عنصريّ،عرقيّ أو دينيّ، تستهدف المسلمين والأفارقة.
لم ينحدر الحال بعد بوسائل الإعلام الأوروبية كلها إلى هذه الدرجة؛ إلا أن تناولها الهجمات
الإرهابية عانى، ولا يزال، من قصور وانحرافات مهنيّة صارخة، فرنسا، على سبيل المثال، التي تعرّضت في السنوات السابقة إلى عدّة هجمات إرهابية، أفظعها في عام 2015: الهجمات الأولى في يناير/ كانون الثاني على مقر صحيفة شارلي إيبدو، وعلى متجر "هيبر كاشير"، وتخلل الهجمات احتجاز رهائن وملاحقة للإرهابيين، وأسفرت عن 17 ضحية، بالإضافة إلى مقتل المنفذين الثلاثة. وكانت الهجمات الثانية الأضخم والأغنف في تاريخ فرنسا، ووقعت يوم 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث شنت مجموعة إرهابية عدة هجمات متزامنة على مناطق وشوارع مختلفة في العاصمة باريس، منها ملعب فرنسا ومسرح باتاكلان، وكانت حصيلتها قاسية جداً، تجاوزت 130 ضحيّة وما يفوق 145 جريحاً. تبنّى تنظيم داعش الإرهابي كل الهجمات السابقة، وبيّنت التحقيقات أن معظم الإرهابيين ذهبوا أو حاولوا الذهاب إلى سورية في السنوات السابقة.
فتحت تغطية مختلف وسائل الإعلام الفرنسية تلك الهجمات نقاشاتٍ واسعةً بشأن أساليب العمل الإعلامي في أوقات الأزمات والتهديدات الكبرى، وتعرّضت معظم تلك الوسائل لانتقادات مهمة، طاولت مهنيتها وخبرتها في التعامل مع نوعٍ كهذا من الهجمات الإرهابية. وفي واقع الأمر، ركزت تلك الانتقادات، بشكل أساسي، على الجدوى من البث المباشر والتغطية المستمرة للهجمات؛ حيث أوقفت وسائل إعلام عديدة كل نشاطاتها، وتفرّغت لنقل تطورات الهجمات لحظة بلحظة. وبذلك قسمت بعض الشاشات إلى قسمين: الأول يعرض استديو القناة الذي ضاق بمحللين وخبراء ومختصين وصحافيين. والقسم الآخر ينقل بالصوت والصورة من موقع الحدث. وتحوّلت التغطية إلى نوعٍ من الدراما التلفزيونية، بكل ما تحتويه من إثارة وتشويق؛ فمع كل معلومةٍ تأتي من أرض الحدث ينبري المحللون إلى التعليق عليها وبناء الفرضيات والاحتمالات إلى أن يتم نفيها والانتقال إلى غيرها. وهكذا، قد يستمر المشهد على هذا الحال ساعات عديدة، يحاول خلالها المذيع المنهك ملء الفراغ بأي شيء، وكأننا في تعليق على مباراة لكرة القدم، لا بل إن حتى تحليل نتائج مباراة ما يجري بهدوء بعد انتهائها ومعرفة نتيجتها وإعادة عرض بعض المشاهد للتأكد من صحتها.
وقد تجاوز الأمر إلى أبعد من ذلك، فدخلت معظم الوسائل الإعلاميّة الفرنسيّة في منافسةٍ
لتحقيق أي سبق صحافي على حساب التدقيق والتحقّق من المعلومة، أو حتى في بعض الأحيان، وهنا الخطورة، على حساب سلامة الرهائن، أو مشاعر ذوي الضحايا أو المصابين. والأمثلة على ذلك صارخة وغير متوقعة، فقد بثّت قناة تلفزيونية لقاءً مباشرا مع مواطنة فرنسية، أكدت أن أخاها موجودٌ بين المحتجزين رهائن، في حين لم تكن عملية الاقتحام قد بدأت بعد، لنكتشف لاحقاً أنّ الرهينة كان مختبئا، ولم يكن الإرهابيون على علم بوجوده أصلاً، كما اتصل أيضاً أحد الصحافيين بمكان احتجاز الرهائن، وتبادل الكلام مع أحد الخاطفين، وتم لاحقاً بث التسجيل الذي لا يتعدّى كونه بروباغندا للعمل الإرهابي. كما بثت قناة فرنسية أخرى تسجيلا صوتيا لأحد الإرهابيين، كان قد اتصل فيها قبل أن يتم قتله، وبرّر أحد نجوم الشاشات الفرنسية وضيفها المعتاد في ظروفٍ كهذه، وهو باحث عتيد، نشر التسجيل الصوتي بأنه يفيد في فهم عملية "تحوّل مجرم صغير إلى إرهابي"!
لم يتمتّع أداء وسائل الإعلام الغربيّة بالقدر الكافي من الموضوعيّة والمسؤولية في تغطية الهجمات الإرهابيّة في السنوات القليلة الماضية، ما عرّضها لانتقادات واسعة، بدأت معها بعض الوسائل بمراجعة آليات عملها وتعديلها. المأمول أن تتحوّل العقلانيّة والمهنيّة التي أبدتها بعض وسائل الإعلام العالميّة في تغطيتها مذبحة نيوزيلندا إلى منهج عمل يُعتمد في تناول أي هجمات إرهابية، مهما كان مصدرها، والمأمول أكثر أن يهتم الإعلام بطرح الأسئلة المهمة، ويوجه النقاشات حول المشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الأساسيّة التي يعتاش عليها الإرهاب العالمي.
وعلى الرغم من النقد الشديد الذي تعرّض له "فيسبوك" بسبب البث المباشر الذي قام به إرهابي نيوزيلندا لتفاصيل مذبحته المروعة، التي استهدفت المصليّن داخل مسجدين في أثناء صلاة الجمعة يوم 15 مارس/ آذار الماضي؛ إلا أن فيديو المجزرة تحوّل مادة إثارة وتشويق، تناقلتها وسائل إعلام عديدة، حالها كحال الوثيقة "مانفستو" التي تركها خلفه، والتي عكست مستوىً غير مسبوق من العنصرية والحقد والكراهية ضد المهاجرين، ورغبة جامحة في الانتقام والقتل.
دارت نقاشاتٌ واسعةٌ بشأن الجدوى من نشر محتوىً كهذا، احتراماً لأرواح الضحايا ولذويهم المنكوبين من جهة، ولما فيه من دعايةٍ مجانيّةٍ للإرهابي من جهة ثانية. وفي هذا السياق، تعاملت رئيسة وزراء نيوزيلندا، جاسيندا أردرن، مع الحدث بمنتهى الحرفيّة والمسؤولية، وتوعدت السلطات النيوزيلندية من ينشر فيديوهات العمل الإرهابي بالسجن عشر سنوات. واللافت أيضاً امتناع وسائل إعلام عالمية عديدة، مثل (فوكس نيوز)، و(سي إن إن) الأميركيتين، عن نشر فيديو الإرهابي، أو حتى تداول اسمه أو صورته.
حقيقةً، امتناع وسائل الإعلام عن القيام بالدعاية المجانيّة للإرهاب العالمي يصيبه بمقتل، فقد
كذلك حظيت الأعمال الإرهابية التي تبناها "داعش" في أوروبا وأميركا، وغيرهما من الدول الغربيّة، بتغطية إعلامية منقطعة النظير، وبثّت غالبية وسائل الإعلام العالمية فيديوهات تلك العمليات وصور منفذيها من دون أي تحفظ. وهذا ما يجعل تعامل بعض وسائل الإعلام، وخصوصاً الأميركية منه، مع حدث نيوزيلندا محط استغراب وتساؤل عن مدى التلاقي والتناغم بين الأجندتين، الإعلامية والسياسيّة، في تغطية الاعتداءات الإرهابية. فقد اعتادت وسائل إعلام أميركية عديدة ممارسة انتقائية فاضحة في تغطيتها الإرهاب، بدءاً من اختيار المصطلحات والتعابير، وليس انتهاءً بالخلط بين مهمة إعلام الجمهور ومساعدته على الفهم وبين التغوّل في إثارته وتحريضه. وتعتبر هذه الممارسات ماركةً مسجّلةً باسم الإعلام الأميركي الذي يملأ الأرض ضجيجاً، ويستسهل إطلاق التهم الإرهابيّة، بمجرد أن المنفد ذو أصولٍ عربيةٍ أو مسلمة، ويعمد إلى تخصيص مساحات واسعة لمتابعة الحدث وتطوراته؛ مقابل لجوئه إلى المواربة والتورية والتلاعب بالمصطلحات وفلترة المعلومات، إن تعلّق الأمر بأعمال إرهابية ذات توجه عنصريّ،عرقيّ أو دينيّ، تستهدف المسلمين والأفارقة.
لم ينحدر الحال بعد بوسائل الإعلام الأوروبية كلها إلى هذه الدرجة؛ إلا أن تناولها الهجمات
فتحت تغطية مختلف وسائل الإعلام الفرنسية تلك الهجمات نقاشاتٍ واسعةً بشأن أساليب العمل الإعلامي في أوقات الأزمات والتهديدات الكبرى، وتعرّضت معظم تلك الوسائل لانتقادات مهمة، طاولت مهنيتها وخبرتها في التعامل مع نوعٍ كهذا من الهجمات الإرهابية. وفي واقع الأمر، ركزت تلك الانتقادات، بشكل أساسي، على الجدوى من البث المباشر والتغطية المستمرة للهجمات؛ حيث أوقفت وسائل إعلام عديدة كل نشاطاتها، وتفرّغت لنقل تطورات الهجمات لحظة بلحظة. وبذلك قسمت بعض الشاشات إلى قسمين: الأول يعرض استديو القناة الذي ضاق بمحللين وخبراء ومختصين وصحافيين. والقسم الآخر ينقل بالصوت والصورة من موقع الحدث. وتحوّلت التغطية إلى نوعٍ من الدراما التلفزيونية، بكل ما تحتويه من إثارة وتشويق؛ فمع كل معلومةٍ تأتي من أرض الحدث ينبري المحللون إلى التعليق عليها وبناء الفرضيات والاحتمالات إلى أن يتم نفيها والانتقال إلى غيرها. وهكذا، قد يستمر المشهد على هذا الحال ساعات عديدة، يحاول خلالها المذيع المنهك ملء الفراغ بأي شيء، وكأننا في تعليق على مباراة لكرة القدم، لا بل إن حتى تحليل نتائج مباراة ما يجري بهدوء بعد انتهائها ومعرفة نتيجتها وإعادة عرض بعض المشاهد للتأكد من صحتها.
وقد تجاوز الأمر إلى أبعد من ذلك، فدخلت معظم الوسائل الإعلاميّة الفرنسيّة في منافسةٍ
لم يتمتّع أداء وسائل الإعلام الغربيّة بالقدر الكافي من الموضوعيّة والمسؤولية في تغطية الهجمات الإرهابيّة في السنوات القليلة الماضية، ما عرّضها لانتقادات واسعة، بدأت معها بعض الوسائل بمراجعة آليات عملها وتعديلها. المأمول أن تتحوّل العقلانيّة والمهنيّة التي أبدتها بعض وسائل الإعلام العالميّة في تغطيتها مذبحة نيوزيلندا إلى منهج عمل يُعتمد في تناول أي هجمات إرهابية، مهما كان مصدرها، والمأمول أكثر أن يهتم الإعلام بطرح الأسئلة المهمة، ويوجه النقاشات حول المشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الأساسيّة التي يعتاش عليها الإرهاب العالمي.
دلالات