في الخصوصيّة السوريّة

10 مارس 2019
+ الخط -
يروق لسياسيين وصحافيين عاديين، أو حتى باحثين بدرجة أقل، منذ اندلاع الثورات في البلدان العربية مطلع عام 2011، عند تناولهم الموضوع السوري، ومقارنته بباقي البلدان، إعطاء أولويّة لمسألة بنية المجتمع السوري، المتنوعة طائفيّاً وإثنيّاً، باعتبارها أهم عوامل تفسير اختلاف سيرورة الأحداث في سورية عن غالبيّة نظيراتها العربيّة. ويستزيد بعضُهم بدعم هذه الفكرة، من خلال التسليم بمسألة التشابه، أو أحياناً التطابق، في طبيعة الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي وبنيتها. ويخْلص معظم هؤلاء إلى أنّ "العطل" يكمن أساساً في المجتمع السوري، بتناقضاته المختلفة، في تفكّكه وتخلفه، لتأتي مسؤولية النظام القائم بدرجة تالية أقل. فبعضهم يلمّح إلى، لا بل وآخر يصرّح، بأن النتيجة ما كانت إلا لتكون نفسها مهما اختلف شكل النظام السياسيّ، أي بمعنى آخر إنّ الاقتتال والحرب هما بمثابة قدر محتوم على السوريين. 
ليس الكاتب هنا في مقام الدفاع عن المجتمع السوري، ودور انقساماته الشاقولية في تداعيات الحرب وشراستها، ولا يدّعي أن طبيعة النظام السوري تختلف جذرياً عن باقي الأنظمة العربيّة، فهذه بشكلها العام أنظمة تسلطيّة، تتشابه إلى حدّ ما في بنيتها، وطبيعة تحالفاتها المافيويّة، أو باعتمادها الفساد والإفساد، الترهيب والترغيب، أداة من أدوات استمراريتها. إنما 
يُراد هنا التركيز على أنّ خصوصيّة سورية لا يمكن أبداً تفسيرها فقط من باب بنية المجتمع "الملغومة"، ولا يمكن إرجاعها إلى الطبيعة التسلطيّة للنظام فقط؛ بل لا بد من التعمّق في ممارسات الطبقة الحاكمة على مدار عقود، ومعرفة آثار هذه الممارسات على مختلف نواحي المجتمع. عندها فقط يمكن أن تكتمل بعض أجزاء الصورة التي تمكّن من فهم الخصوصيّة السوريّة، فالنظام السوري لم يعمل فقط، كغيره من الأنظمة التسلطيّة العربيّة، على تعطيل سيرورة الحياة السياسيّة، في سبيل الحفاظ على استمراريته، ومنع أي شكل من الانتقال السلمي للسلطة؛ بل إنه قام بتعطيل، أو بتعبير أدق "تحنيّط"، مختلف جوانب الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والتعليميّة وغيرها، فهو، من جهةٍ أولى، لم يكتف بعدم محاولة العمل على بناء دولة المواطنة، وتهديم البنى التقليديّة، ما قبل وطنية، لصالح مشروع الانتماء للوطن؛ بل قام بالاستثمار بهذه البنى، وتعزيز انقساماتها، لتكون إحدى أهم أدوات استمراريته، فتغذية الانقسام والتجزئة والخوف من الآخر ساهمت في زرع حقول ألغامٍ بين مكونات المجتمع السوري، قابلة للانفجار عند أي حادثٍ أو منعطفٍ صغير. لذلك، كان الخوف الذي لعب عليه النظام السوري ورهّب السوريين منه مضاعفاً: خوفا تقليديّا يستخدمه أيّ نظام تسلطيّ لضبط إيقاع مملكته بطريقةٍ يحافظ بها على مكتسباته واستمراريته، والخوف من الآخر الذي حوّل، من خلال تحكّم النظام المستمر بخيوطه، بُنى المجتمع السوري إلى متاريس شاقوليّة متنافرة/ متضادّة.
ومن جهة ثانيّة، لم يعمد النظام السوري إلى إقفال المجال العام أمام العمل السياسيّ الحزبيّ، أو النشاط النقابيّ والمدنيّ، بل تعدّاه إلى مصادرة أيٍّ من أشكال حريّة التعبير والكلمة، فعلى خلاف معظم الأنظمة العربية العسكرتاريّة، بقيت وسائل الإعلام التقليديّة (تلفزيون، صحافة، 
راديو) محتَكرة من الجهات الحكومية أو المتواطئة معها، وبذلك لم يسمح النظام بإرساء أيّ تقاليد لعمل إعلامي حر، يمارس دوره الرقابيّ على مؤسسات الدولة، ويعمل وسيطا بين تلك المؤسسات والمجتمع. وتكاد سورية تكون مثالاً فريداً على مستوى التصحّر الإعلامي، وقمع حريّة الكلمة، ففي الجزائر، على سبيل المثال، وهي الدولة الأقرب لسورية لجهة اليد العليا للعسكر والقوى الأمنية والمخابراتيّة في إدارة البلاد، حقق الإعلام فيها مكاسب معقولة على مستوى حرية التعبير والتعدديّة والتنوّع في الوسائل التعبيريّة. وإن كانت هذه المكاسب الاعلاميّة في الجزائر لم تترك أثراً ملموساً على تحالف مافيا الحكم فيها (بمعنى قولوا ما تريدون ونحن نفعل ما نريد)، إلا أن هذا على الأقل أوجد تقاليد صحافيّة مهنيّة، لن يكون من الممكن التراجع عنها بسهولة، ويمكن أن تلعب دوراً في النهوض بالمجتمع الجزائري مستقبلاً.
أقفل النظام السوري، بالطريقة نفسها، المجال الرقميّ، وكانت سورية من آخر الدول العربية التي فتحت الإنترنت أمام مواطنيها. والأمر مشابه بالنسبة للمدوّنات وشبكات التواصل الاجتماعيّ التي لم تُفتح لعموم السوريين إلا في مطلع عام 2011، وكان ذلك من باب الاستفادة منها، وتطويعها لخدمة أجندة النظام السياسيّة والاعلاميّة، وليس نوعاً من الانفتاح وحريّة التعبير. لهذا وجد السوريون أنفسهم مع انطلاقة المظاهرات أمام "شبحٍ" يُدعى "فيسبوك"، إلى درجة رواج دعابة عن عناصر الأمن في تلك الحقبة، وهم يفتشون السيارات ويسألون أحد الركّاب "هل معك فيسبوك في حقيبتك؟! هذا مختلفٌ عمّا كانت تعيشه معظم البلدان العربيّة التي استقر فيها استخدام الإنترنت، وبرز فيها دورٌ ليس قليلا للمدوّنين وناشطي الشبكات الاجتماعيّة، كما الحال في 
تونس ومصر، وغيرهما.
حتى في قضيّة الفساد، والتي تعتبر زيت محرّك الأنظمة التسلطيّة، في سورية، كان الأمرُ ممنهجاً، وأصبح جزءاً متأصّلاً في كل مناحي الحياة وجوانبها، وطاول كل مفاصل الدولة و"مؤسّساتها"، حتى وصل إلى أكثرها حساسيّةً: التعليم والقضاء. أدّى هذا الفساد إلى تكديس أموال البلد وثرواتها في أيدي بضع عشرات من مافيا تجارية متحالفة مع السلطة، ومتماهية معها، وقضى تدريجيّاً على الطبقة الوسطى في المجتمع، وعمم ثقافة فسادٍ مجتمعيّة، أصبحت جزءاً من حياة كل مواطن سوريّ.
إذاً، من الصعب فهم الخصوصيّة السوريّة من دون ربطها بممارسات الطبقة الحاكمة، وتعطيلها مختلف مجالات الحياة ومناحيها. خصوصيّة أضحى معها المتظاهرون الأوائل في شهر مارس/ آذار 2011 مكشوفي الظهر، من دون أي مساندةٍ تذكر، لا من أحزابٍ معارضة متماسكة، أو حتى نقاباتٍ ومؤسسسات مجتمع مدنيّ عريقة، ولا من وسائل إعلام سورية مهنيّة مستقلّة.
4A9AAD85-F101-4493-BFB7-1CEC8C9E296E
4A9AAD85-F101-4493-BFB7-1CEC8C9E296E
وسام الناصر

كاتب وباحث سوري متخصص في الشبكات الاجتماعية الرقمية

وسام الناصر